بوسعادة.. الجنة المفقودة.
الوصول الى بوسعادة.
لوحة «المرأة والعرافة» التي شاهد الجميع نموذجا عنها في الرزنامات و الأجندات. عند مدخل المتحف يوجد.
- ناصر الدين دينيه -
يشرفنا ان نقدم لكم هذا الفنان العظيم الذي اقترن اسمه بمدينة بوسعادة فاشتهر بها واشتهرت به اذ أصبحت لوحاته مخلدة لعادات و تقاليد المنطقة كما لا يمكننا أن ننكر اسهامته الجبارة لخدمة الاسلام والمسلمين فهو يعتبر من المساهمين في بناء وتزيين مسجد باريس ذلك القطب الاسلامي في فرنسا، كما دافع فنانناعن الاسلام بكل قوته حتى لقب بخائن الغرب .
أرجوا أن نوفي هذا الفنان و المفكر الاسلامي البوسعادي الذي اقتصر ذكره كفنان مستشرق فقط ولوبالجزء القليل من حقه.
• حياته و آثاره:
بوسعادة - كما يدل على ذلك إسمها - هي مدينة الحياة السعيدة ... هي المدينة التي تحتضنها واحة من أجمل الواحات في الجزائر : فهي تقع في مكان رائع تنسجم فيه زرقة السماء و ملمح الكثبان و منظر الأفق الصحراوي الذي لا يكاد ينتهي عند حد.
هناك يرقد جثمان ناصر الدين الفنان الكبير وأديب الجزائر تحت قبة بيضاء متواضعة تنغمر بضوء الجنوب الباهر ، و تتهدهد بالأغنية العذبة للنخيل و بالنغمة الشجية للناي البدوي . غير أن أصله الأوربي ، وعائلته البرجوازية الكاثوليكية ، و تربيته الغربية ، ليس من شأن ذلك كله أن يجعل المرء يتنبأ بمصير الفنان " دينيه " العجيب.
ولد " ألفونس إتيان دينيه " بباريس في : 28.مارس.1861 من عائلة يرجع أصلها إلى مقاطعة " لواريه " ، و كان أبوه محاميــا لدى محكمـــة : " السيــن " و كان جده المهندس إبن وكيل الملك في " فونتان بلو" .أما أمه " لويز ماري آدل بوشيه " فقد كانت أيضا إبنة محام . بعد دراسته الثانوية التي توجت بحصوله على البكالوريا ، قبل في مدرسة الفنون الجميلة بباريس. وتدرّب في مرسم (قالون)، وأكاديمية (جوليان)، وتتلمذ على يد فنانين عالميين أمثال: (جالان) ( طوني فلوري) (روبير)،( وبوجرو) و لدى تخرجه منها فاز بوسام شرفي.
إن مسألة اختيار مهنته قد نوقشت في العائلة مناقشة حادة ،وتقول أخته (جان دينيه ) في هذا الموضوع بأنه"سيكون من الطبيعي جدا أن يتخذ قرارا بالاتجاه إلى دراسة الحقوق لكي يواصل مهنة أبيه..."ولكن الشاب دينيه رفض ذلك وقرَر أن يدخل مجال الرسم لكي يسمح لمواهبه الخارقة بأن تنمو وتتفتح .
لقي عمله الأول "الأم كلوتيد" اهتماما كبيرا من قبل الناقدين والهواة في صالون عام 1882 ويمثل هذا العمل صورة فلاحة مسنة بقبعتها البيضاء الخاصة بالنساء الريـفيات .
وفي عام 1883 تحصل على درجة الشرف بلوحته "صخرة صاموا" (فونتين بلو) ،وقام برحلته الأولى إلى الجزائر وفي عام 1884 منحه صالون قصر الصناعة وساما ثالثا كما أعطاه منحة قصيرة مع مستكشفين فرنسيين للبحث عن فراشة نادرة بعدها أتيحت له الفرصة بأن يقوم برحلة ثانية حيث عاود زيارة الصحراء الجزائرية بدءا من الأغواط –غرداية –منها منطقة بني ميزاب متليلي ورقلة سدراته متجولا على جمالها بإعانة دليل.
وقد امتدت سفريته إلى ستة أشهر طويلة ، وهناك وجد ضالته المنشودة ،إذ تركت المناظر الخلابة التي رآها في الجنوب أثرا عميقا في حياته ، مما أتاح له التعمق في مناظر الجنوب الجزائري ودراسته فنياً ،ومن بين اللوحات الرائعة التي استوحاها من الجنوب لوحة "سطوح الأغواط" (موجودة حاليا في المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر).
وفي عام 1889 منح الوسام الفضي في المعرض العالمي المقام في باريس ، وتعرف دينيه في نفس السنة على شاب جزائري يدعى "سليمان بن إبراهيم باعامر"أصله من بني ميزاب وحين عودته إلى الجزائر اشتدت روابط الصداقة و الوفاء بينهما ، ومنذ ذلك الحين صار" بن إبراهيم " يشاركه في كل مجالات حياته الفنية و الفكرية.و الحقيقة أنه اعتبارا من عام 1905 استقر دينيه نهائيا في بوسعادة مع قيامه في نـفس الوقت برحلات مستمرة إلى فرنسا.
عاش ألفونس في مدينة بوسعادة سنوات طويلة ، وتشرب من أهلها خصال العرب والمسلمين، وراقب أحوالهم ومارس عاداتهم وتقاليدهم ، وبدأ في التأمل والتفكير العميق في قيمة الإسلام بالنسبة إلى معتنقيه ؛ بسبب ما لمسه من أخلاق المسلمين الكريمة ، فدرس الإسلام بعمق بمساعدة رفيق عمره "سليمان"، وأخيراً قرر اعتناق هذا الدين الحنيف، فأشهر إسلامه سنة 1913م، حيث نطق
الشهادتين أمام مفتي الجزائر، وقال مقولته الشهيرة: " لم يكن اعتناقي الإسلام وليد الصدفة ، بل عن دراية تامة ، ودراسة تاريخية عميقة طويلة الأمد لجميع الديانات". وبناء على هذا الإشهار أطلق على نفسه اسم (ناصر الدين دينيه)! ليكون مصداقاً لقول أحد أولياء بوسعادة الصالحين ، عندما قال : " إن الله يبارك كل من يعيش في بوسعادة أكثر من أربعين يوماً ".
كان دينيه يستقبل من طرف الأوساط الجزائرية،وكان " بن إبراهيم " يرشده في ذلك،وقام برحلات عديدة عبر الصحراء.وهكذا تعلم النطق بالعربية،وفهم النفسية الجزائرية و العادات و التقاليد،و أحب الدين الإسلامي حتى اهتدى بهديه و قد أثار إعتناقه للإسلام حملة خفية من الافتراءات ،واشتدت الحملة عندما أصرعلى المواصلة. فبدأ خصومه الأوربيون يقولون عنه بأنه "خائن الغرب " ومع ذلك فقد كان اختياره هذا عن " إيمان منطقي وعميق " ودراية تامة للواقع وكان جادا و مخلصا في اختياره هذا فقد أطاع ما يمليه عليه ضميره ، فاتبع المبادئ الصحيحة بكل دقة وأحكام.
وهكذا أصبح ناصر الدين من ذوي السيرة الحسنة والتفكير الجذاب و الشخصية الساحرة باعثة في ذلك عقيدة ثابتة و إيمان خالص و شخصية قوية.
و كانت قامته متوسطة،وهو نحيف بعض الشيء و له هيئة تفرض الاحترام ،وهو غير متكلف في ملبسه.ومما يلفت النظر في وجهه ذلك البريق الحي في عينيه السوداوين ،و في ذلك دليل على نفسه الغنية و شعوره المرهف.وما لبث هذا الفنان البوسعادي أن وضع كل موهبته لوصف حياة الصحراء ونفسية الجزائريين و ظروفهم الاجتماعية. و قد لاحظ "ليونس بينيديت " في جريدته عام 1911 أن دينيه " يرغب عن الرسم للرسم ولكنه استخدم الرسم كوسيلة للتعبير عن تفكيره بدون تأنق فني ..."
أما إنتاجه فلم يتجاوز العشر لوحات في العام.كان رسمه يحضى بالتقدير في عالم الفن،حتى أن متاحف عدد من العواصم الكبرى إشترت آثار ناصر الدين مثل ( متاحف برلين, وباريس ,وسدنيه وطوكيو ...) و آثاره موجودة أيضا عند كبار جامعي اللوحات الفنية الأوربيين والجزائريين والخليج العربي والواقع أن أعماله الفنية كانت خلال زمن طويل لا تصل إلى مكان بيع اللوحات في أروقة " آلار " بباريس لأنها كانت تباع بمجرد إنجازها .
تحولت نظرة معجبيه القدامى فأصبحوا ينتقدون فنه بعد إسلامه،ومن الغريب أن فنه أصبح في نظرهم مشبوها.و لم يستطع هؤلاء أن
ينكروا عليه إسلامه،فأخذوا ينتقدون رسمه،هذا الفن الذي أصبح بين عشية وضحاها لا يساوي شيئا في نظرهم،حتى أن آثاره الهامة
أصبحت في نظرهم "تـنميقا استشراقيا " بلا معنى.وفي عام 1929 عرقل مشروع إنشاء متحف دينيه من قبل الحاقدين عليه و الجماعات الاستعمارية القوية لذلك العصر.على أن هذا لم يمنع "ناصر الدين "من أن يتابع طريقه،لأنه كان مدفوعا بإيمان عميق.
ناصر الدين دينيه العالم و المؤمن:
وإذا كان ألفونس أو ناصر الدين اشتهر باعتباره فناناً عالمياً في رسم اللوحات ، إلا أنه برع أيضاً في نشر البحوث والكتب الدينية - دفاعاً عن الإسلام ورسوله - ، فقد أنتج عددا من المؤلفات ذات الصبغة الأدبية و التاريخية و الدينية التي نشرها بالاشتراك مع رفيق عمره "سليمان بن براهيم با عامر". فقد كتبا كتابهما (الشرق في نظر الغرب) رداً على من هاجم الإسلام عن جهل من المستشرقين الغربيين. كذلك كان كتابهما (الحج إلى بيت الله الحرام)، الذي ترجمه مؤخراً (د.عبد النبي ذاكر) وفي تصدير الكتاب نقرأ قول المؤلفين: "كتابنا هذا ليس عمل الأدباء ولا العلماء،وإنما هو عمل مسلمَيْن لم يعملا على تقييد أيَّة ملحوظة أو أخذ رسم أو صورة فوتوغرافية إبّان إقامتهما في الأرض المقدسة ، لكنهما كانا منخطفيْن أمام جلال مناسك الحج، وأمام روعة مناظر أرض الحجاز، التي بقيت ذكريات مناسكها ومناظرها محفورة في عينيهما وقلبيْهما." تُرى هل يستطيع هذا الكُتيِّب، تبديد الخِلافات المحدِقة بمستقبل السلام في الشرق ؟ وكذا الإسهام ـ بشكل متواضع ـ بإقامة وئام صادق بين اليهودية والمسيحية والإسلام . كما نجد كتابهما (محمد رسول الله)، الذي نُشر مترجماً عام 1956م، وقدّم له شيخ الأزهر بمقدمة قال فيها عن الحاج ناصر الدين: "عاش فناناً بطبعه، وكان مرهف الحسّ، رقيق الشعور، جياش العاطفة، وكان صاحب طبيعة متدينة. كان كثير التفكير، جمّ التأمل، يسرح بخياله في ملكوت السماء والأرض، يريد أن يخترق حجبه " .وأخيراً نجده قد تصدى في كتابه "الشرق في نظر الغرب " للرد على عدد كبير من المستشرقين الغربيين الذين كانوا يتهجمون على الدين الاسلامي عن جهل أو عن فهم سقيم كما أظهر فيه عدم الاستقامة الخلقية لـ :لويس برتراند، و سخف الاب : لامنس ، و سوء نية : ليون روش . فقد كان هذا الاخير يتظاهر بأنه إهتدى للإسلام .
لقد كان مولعا بالبحث عن الحقيقة بدليل أن الكتابات الأدبية التي نشرها وحده أو مع صاحبه" سليمان بن براهيم "تشهد عن رغبته في تصحيح آراء معاصريه ، في ما يتصل بنظرتهم الخاطئة إلى الإسلام.إنه كباقي المسلمين الأوفياء أراد أن يعيد للإسلام صفاءه ، و أن يطهره من الأفكار الضالة التـي حاولت جماعة من الانتهازيين وأعوان الاستعمار أن يلصقوها به.
ناصر الدين المعلم المقتدر للرسم الجزائري:
غير أن أهم وسائل التعبير عند دينيه تتمثل في ممارسته للرسم . و لقد نمت موهبة دينيه من دقة الملاحظة ، حيث سمحت له أن يلتقط الخطوط الرئيسية و الأجزاء الضرورية لكي يكون رسمه مميزا.إنه رسام بارع بالدرجة الاولى فهو ماهر في التلوين، و في مزجه الألوان بشكل ساحر.
و تذكر أخته في ترجمة حياة دينيه أنه :" أضاف إلى إحساسه الفطري موهبة قوة الملاحظة كما قال هو نفسه ذات يوم ، فقد سمحتا له أن يحافظ على التعابير و الالوان بشكل متميز " .
إنه بحق لوّان بارع ، فقد صوّر الشفق و الغسق بكل زهو ، و هو متعمّق في معرفة النفس إذ عبّر عن الروح البدوية بمهارة كبيرة .
إن لـــــوحاته "منظر المسيلة " و " سحرة الثعابين " و " عبد الغرام و نور العيون "و " الزوجة المهجورة " و " المتربصون " و " الفتيات العربيات " ، و غيرها هي بحق بعض من أعماله الرائعة ، و فيها تمتزج الحقيقة بالخيال في إنسجام كامل كما أنه زوّق كتب " عنتر 1898 " و" ربيع القلوب 1902 " و " سراب " و " لوحة الحياة العربية 1908 " و الفيافي و القفار 1911 " و أخيرا " خضرة 1929"
و إعتبارا من عام 1915 أخذ الفنان الجزائري الكبير " محمد راسم " يتعاون مع دينيه في اللوحات التزويقية التي إزدانت بها كتب " حياة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم" و " خضرة " و الكتاب المطبوع بعد و فاته " الحج إلى بيت الله الحرام " .
و هذا التعاون سمح للفنانين بتوثيق الصِلات في مجال الفن و الثقافة ،وكان معروفا بحب الإطّلاع وبإتباع المنهج العلمي ، ولذلك صرف وقتا طويلا بدون ملل ، وبذل جهودا كبيرة في دراسة المشاكل التقنية المتعلقة بمزج الألوان وفساد أقمشة الرسم ، و المحافظة على الآثارالفنية بالطرق الفيزيائية والكيميائية .
كلّ هذه الأبحاث مشروحة في كتاب ذي صبغة علمية نشر عام 1926 تحت عنوان " آفات الرسم ووسائل مكافحتها " .
لقد إعتبر من ناحية أخرى أن الفن التجريدي المعاصر كان له سابقون رسموا خطوطه منذ قرون ، و هؤلاء هم أساتذة الفن الإسلامي الذين أبرزوا عناصر جميلة في تزيين العمارة المدنية و الدينية و ألوف من التشبيكات الزهرية و الخطوط العربية و الأشكال الهندسية .
من التأريخ للمجتمع إلى رؤية القيم الروحية:
و مع ذلك فإنّ دينيه اختارأن يكون رسّاما تشبيهيّا فهو عندما يعالج صورة أو منظر اطبيعيا أو موضوعا روائيّا فان براعة فنه تظهر
في الإنسجام بين الألوان و الضوء في جوّها العام ، و كل هذا جعل النقّاد يشبهونه بـ: (" بإنجر" و " كوربي " و " مانيه " أو بالسويدي " زورن " ).
لقد عاش ناصر الدين في عصر كان فيه الفنانون يقتبسون إلهامهم من القديم و الاساطير بشكل مستمر.أما هو فنجده يتحول إلى العالم العربي لكي يجعله للآخرين مفهوما و محبوبا. و فنه في الدقة يكمن أيضا في البحث عن الاستعارة التي تعبر عن إحساس ملتزم في خدمة مثل أعلى.
و الحقيقة أن فنه قائم على دقة الملاحظة بالإضافة إلى الألفة الروحية التي تنعكس على أشخاصه لكي يوضّح نفسياتهم ، و ظروفهم الاجتماعية ووسطهم الثقافي . إننا نجد الخشوع يظهر تماما في لوحة الصلاة ، فهناك إنسجام بين القوة الهادئة للرجال و عمق الايمان المتجلى في الموقف و في الحركة و في النظرة .
و لا يريد بأسلوبه هذا أن ينافس فن التصوير ، بل يريد بطريقته الماهرة و إتقانه لمزج الألوان أن يعبر بلغة سهلة عن هذه الحقيقة المعقدة الممتنعة .وتظهر شدة التأثر في " الزوجة المهجورة " فهي لا تبتسم و تبدو جامدة تائهة في شرودها ،في الفيافي اللامتناهية .إنها تعكس صورة لا تضاهي في العزلة و القنوط ،في الإستسلام للقضاء و القدر.وكان دينيه يستوحي دائما مناظره من الصحراء ذات الضياء الدفيء فرسم لوحات رائعة جدا.