كيف تغيرت إطلالة منزلي بالجزائر من دير مسيحي فرنسي إلى ثالث أكبر مسجد بالعالم؟.
أعتبر نفسي محظوظاً أني ولدت ونشات ولا أزال أعيش على بعد حوالي نصف ساعة مشياً فقط عن المكان الذي بني به "جامع الجزائر الأعظم، ثالث أكبر مسجد في العالم، وهو مكان أو منطقة كانت تُسمى من قبل "لافيجري".
مارست الرياضة في صغري بمنطقة أصبحت الآن "جامع الجزائر الاعظم"
"سآخذك معي إلى ليبار، لتشاهدني ألعب كرة القدم"، هذا ما قاله لي شقيقي الأكبر عندما اصطحبني معه لأول مرة إلى منطقة كانت تسمى بهذا الاسم "ليبار"، وكُنت حينها أبلغ من العمر حوالي 6 سنوات.
بقيت تلك الرحلة راسخةً بذهني، ليس فقط لأنها كانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى تلك المنطقة، بل بسبب أنني أيضاً في طريق العودة إلى البيت، وكنت حينها أنتعل نعلاً مترهلاً، دُست على قطعة من الزجاج، فتعرضت لجرحٍ غائرٍ نسبياً في أسفل القدم، وظل أثره واضحاً بعد اندماله، وكنت كلما أنظر إليه أتذكر الرحلة "السعيدة".
أتذكر أننا عندما وصلنا إلى "ليبار" وجدنا مساحةً ترابيةً شاسعةً، كانت تحتضن عدة مباريات في كرة القدم في وقت واحد، وارتفع العدد بانطلاق المباراة التي شارك فيها شقيقي، وربما أكثر بتوافد فرق أخرى من شتى الأحياء القريبة من المنطقة.
لم أكن أعلم، في ذلك الوقت، معنى كلمة "ليبار"، ولكن مع مرور السنوات واكتسابي بعض المعارف علمت أنها في الأصل كلمة فرنسية (les péres)، وتعني "الآباء"، ثم عرفت أنها مختصر لاسم (les péres blancs)، أي "الآباء البيض".
وعرفت أيضاً أنّ تلك المنطقة الترابية الشاسعة تابعة لحي يُسمى " لافيجري"، ستعرف أخي القارئ فيما بعد معنى هذا الاسم وعلاقته بـ"الآباء البيض".
لا أتذكر أني ذهبت مرة أخرى في طفولتي الصغيرة إلى ميادين "ليبار بلان"، ولكني تنقلت رفقة صديق إلى ملعب "1 نوفمبر 1954″، القريب منها، لمشاهدة أول مباراة رسمية من المدرجات، جمعت بين فريقَي اتحاد البناء وشبيبة تيزي وزو (التسمية السابقة لنادي شبيبة القبائل الحالي)، وكنت حينها أبلغ من العمر 11 سنة.
وبعدها بعامٍ واحدٍ فقط أصبحت من رواد ملعب "1 نوفمبر 1954″، حيث انضممت لنادي اتحاد بلدية الحراش (وليس اتحاد الحراش) لألعاب القوى، ثم لنادي اتحاد البناء لنفس النوع من الرياضة..
جامع الجزائر الأعظم" بُني بمنطقة طبيعية جميلة.
ومن خلال ممارستي للرياضة توسعت معرفتي للمنطقة، حيث كنّا نخرج خارج الملعب للركض لمسافة طويلة ولوقت ليس بالقصير، فبدأت أكتشف بنايات لم أعهد من قبل مشاهدة شكلها الهندسي، موجودة وسط منطقة غابية جميلة، مقابلة لميادين "ليبار بلان".
في الحقيقة ورغم التعب الكبير الذي كنت أحسّ به بسبب الجري لوقت طويل، فإني كنت أسعد كثيراً بالتواجد في ذلك المكان الغابيّ للجميل.
وعرفت من خلال الاستماع لزملاء الرياضة الذين يفوقونني سناً أنّ كل تلك البنايات الغريبة بالنسبة لي كانت في السابق كنيسة يتعبد فيها الفرنسيون الذين كانوا يعيشون بالجزائر في زمن الاستعمار.
لكن في الواقع ليست تلك هي المعلومة الدقيقة، والتي سأعرفك عزيزي القارئ بها لاحقاً.
أريد التنويه أنّ ممارستي للرياضة بمنطقة "لافيجري" كانت في المساء، أي بعد خروجي من المدرسة، ولذلك لم أكن أنتبه لوجود مصنع "مشبوه" في بعض تلك البنايات "الرهيبة".
المهم، مرت بضع سنوات أخرى، وتصادف أني بعد إنهائي للتعليم الابتدائي والمتوسطي بالحي الذي أقطن به، تم إرسالي إلى ثانوية بعيدة لإكمال دراستي.
لم أكن التلميذ الوحيد من حيّي الذي تم إرساله لمواصلة تعليمه بالثانوية التي تحمل اسم "عبان رمضان"، والتي لا تزال تقدم خدماتها إلى الوقت الحاضر. وقد كنَّا نتوجه إليها كل صباح مشياً على الأقدام، ونعود في منتصف النهار إلى بيوتنا من أجل الغداء، ثم نرجع إليها بعد الظهيرة.
كنّا نسلك طريقاً مختصراً حتى لا نتأخر في الوصول إلى مقصدنا، ولكن في بعض الأحيان كنّا "نجازف" بالذهاب إلى الثانوية أو العودة منها عبر الطريق "الجميل" الذي يمر عبر تلك البنيات "الرهيبة" التي تحدثت عنها من قبل.
ومن خلال تعدد الذهاب والإياب، اكتشفت أنّ بعض البنيات قد تم تحويلها إلى مدرسة لتعليم صغار الصُّم والبُكم، وأنّ البنايات "المشبوهة" كانت عبارة عن مصنع لإنتاج الخمور.
تعليمي الثانوي كان بالقرب من المنطقة الحالية لـ"جامع الجزائر الأعظم"
درست بثانوية "عبان رضمان" في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وكنت حينها لا أزال أمارس رياضتي المفضلة بملعب "أول نوفمبر 1954″، والذي كان يطلق عليه من قِبل سكان المنطقة وضواحيها ملعب "لافيجري"، ولا يزال يُعرف لدى البعض إلى الآن بهذا الاسم.
وخلال فترة دراستي الثانوية عايشت تغييراً جذرياً في ميادين "ليبار بلان"، بحيث تمت إزالتها لتتحول إلى جزء من طريق سريع يربط الضاحة الشرقية للجزائر العاصمة إلى وسطها عبر واجهة بحرية، وتتخلله عدة جسور مختلفة الأحجام.
بعد انتقالي للدراسة بالجامعة توقفت عن ممارسة الرياضة بملعب "لافيجري"، وأصبحت بالنسبة لي مجرد هواية، كما توقفت علاقتي "الوطيدة" بتلك المنطقة، التي وكلما تصادف أن مررت بها مرة أو مرتين في السنة الواحدة ألاحظ فيها تغييراً جديداً.
وهكذا، ومع مرور السنوات أزيل مصنع الخمور، كما تم تحويل صغار الصم والبكم إلى مدرسة جديدة ببلدة "الرويبة"، وهُدمت تلك البنيات المتبقية في انتظار إنجاز مشروع ضخم يحمل رمزيةً دينيةً وثقافيةً واجتماعية