اثبت الاطروحة القائلة ان " العقل لا يتعارض مع النقل " .
(الطريقة استقصاء بالوضع )
طرح المشكلة: تعتبر الفلسفة الإسلامية من الفلسفات التي تميز العصر الوسيط حيث استطاعت أن ترقى إلى مستوى الفلسفات الأخرى فارتبطت بإشكاليات متعددة و حاول الفلاسفة المسلمين الوصول إلى حلها من خلال التوفيق بين الدين و العقل و حول ذلك اختلفت آراء الفلاسفة المسلمين فقد شاع القول انه لا يمكن أبدا التوفيق بين العقل والنقل و النقل وان بينهما قطيعة تامة في حين هناك من يؤكد أن الفلسفة والدين وجهان لعملة واحد فكيف يمكننا أن نثبت هذا الأخير أو بلغة أخرى كيف يمكن إثبات عدم تعارض العقل والنقل ؟
محاولة حل المشكلة:
عرض منطق الاطروحة : يرى أنصار هذا الموقف أن هناك توافق بين الدين والفلسفة أي بين الشريعة و العقل فكلاهما يقود الناس إلى الوصول و معرفة الحقيقة وهذا ما أكده كل من إخوان الصفا الكندي و ابن رشد حيث اعتبر إخوان الصفا أنه متى انتظمت الفلسفة مع الشريعة حدث الكمال لذلك قالوا الشريعة دنست بالجهالات و اختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة و ذهب الكندي إلى الموقف نفسه حيث يرى أن الفلسفة أشرف العلوم و من الضرورية الأخذ بها لأنها علم الحق وكذلك الدين هو علم الحق فهناك انسجام بينهما و توافق أما ابن رشد فهو يرى أن الفلسفة لا تناقض الدين بل تفسره فقد جعل الفلسفة في خدمة علم التوحيد وهذا من خلال الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية التي تأكد على النظر في جميع الموجودات بواسطة العقل قوله تعالى<فأعتبر يا أولي الأبصار >ولقد بين أن ما تدعوا إليه الفلسفة من طلب للحقيقة ينسجم مع مقاصد الشريعة وهو القائل<الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة و هما المصطحبتان بالطبع المستحبتان بالجوهر و الغريزة > ومنه يمكن التوفيق بين الوحي ومضامينه و العقل ومبادئه وليس توفيق بين الدين و معطيات الفلسفة بمفهومها اليوناني
تدعيم الأطروحة بالحجج والبراهين : لقد اعتمد على تبرير هذا الموقف عدة حجج وبراهين نذكر منها أن الشريعة نور من عند الله والعقل هو كذلك نور من عند الله ولا يمكن أن يناقض النور النور كما أن من علماء الكلام من وفق في التوفيق بين العقل والنقل خاصة في الاستماتة في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر هنا المعتزلة التي استطاعت ان تدافع عن العقيدة بالحجج العقلية لان غير المسلمين خاصة الفلاسفة منهم لا يقتنعون إلا بالعقل لذلك كان لزاما إقناعهم بالعقيدة عن طريق العقل وهكذا حدث التزاوج بين العقيدة والفلسفة ثم إن الدين هو نفسه يوجد فيه أساليب برهنة عقلية تشبه تماما نظيرتها في الفلسفة مثل قوله تعالى " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ " وهنا البرهان بالخلف واضح وجلي وهو برهان عقلي كما أن لفظ القران ذكر 49 مرة وما هذا إلا تأكيدا على دوره لذلك جعل شرطا من شروط التكليف
نقد خصوم الاطروحة :
1-عرض موقف الخصوم : يرى أنصار هذا الموقف أنه لا يوجد توفيق بين الدين والفلسفة لأن لكل واحد منهم خصائص فالدين مثلا يقدم القضايا الإيمان كمسلمات لا يمكن مناقشتها كقوله تعالى<الرحمان على العرش إستوى>فيجب على الإنسان الإيمان بها كما وردت لأن الدين وحي إلهي أما في الفلسفة فمصدرها الإنسان قائمة على العقل المحدود الذي لا يعرف الأمور الطبيعية كما أن التاريخ يؤكد أن العقل وقع في الأخطاء خصوصا في أمور العقيدة فالمعتزلة مثلا عند عقلتنها للدين خرجت عن أصوله ومن ذلك إنكارها لشفاعة الرسول ص كونه تتنافى مع العدل الإلهي و يؤكد هذا الرأي أبو حامد الغزالي و ابن خلدون حيث أقر هذا الأخير أن العقل محدود و الأمور الغيبية فوق قدرته فلا يمكن التوفيق بين الدين والعقل أما أبو حامد الغزالي فهو يرى أن العقل صالح للقضايا الرياضية و المنطقية بينما هو عاجز في الأمور الإلهية فقال<لو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقي عن التخمين كعلومهم الحسابية و المنطقية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحساب ومنه لا يمكن التوفيق بين الدين و الفلسفة
2- نقد خصوم الأطروحة : لكن لا يمكن إنكار دور العقل في بناء المقاصد الشريعة لأن فهم الدين و تفسيره لا يكون إلا بواسطة العقل ثم إن الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ومن سار في فلكهم استخدموا الكثير من الحجج العقلية في إثبات موقفهم وإنكار رأي خصومهم ففي الحقيقة كل تهجم على الفلسفة هو فلسفة بعينها ثم كيف يمكن تبرير وجود القياس كمصدر من مصادر التشريع أوليس عبارة عن قياس أرسطي محض شبيه بما هو موجود في الفلسفة فهذا الموقف قد على غلوا كبيرا في فصله الدين عن العقل
حل المشكلة: في الأخير ما يمكن تأكيده أنه هناك توفيق بين الدين والفلسفة وان الأطروحة القائلة أنه لا يوجد تعارض بين العقل والنقل أطروحة صحيحة ويمكن تبنيها والعمل فحتى لو أقررنا افتراضا نفي العقل في فهم الدين لا نستطيع ذلك عمليا فعقل الإنسان لا يمكن تعطيله حتى ولو أردنا .
هل يمكن الاستغناء عن الفرضية في المنهج التجريبي ؟
طرح المشكلة:
من المتعارف عليه هو أن كل الاختراعات والاكتشافات العلمية التي عرفتها البشرية في العصر الحديث ، هي سبب ظهور النهضة الصناعية والحضارية ، ويعود الفضل في ذلك إلى مطالبة بعض الفلاسفة بالتخلي عن البحث عن اصل الوجود وعلة العلل وغيرها من الافكار الميتافيزيقية ، والتحول نحو دراسة الظواهر الطبيعية التي تحيط بنا وذلك باستخدام المنهج التجريبي ، هذا المنهج يتكون من ثلاث خطوات اهمها الفرضية و هي تلك الفكرة المسبقة التي توحي بها الملاحظة للعالم ، فتكون بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي ، وبعبارة أخرى هي الفكرة المؤقتة التي يسترشد بها المجرب في إقامته للتجربة .ولعل هذا ما كان سببا في بروز جدل فلسفي حول قيمة الفرضية باعتبارها فكرة عقلية ، حيث نجد التجريبيين يعترضون عليها ويطالبون بضرورة الاستغناء عنها والاكتفاء بالملاحظة والفرضية ، في حين يصر العقلانيون على اهميتها ويؤكدون ان التجريب غير ممكن بدونها . وبين هذا وذاك نطرح الإشكال التالي : هل يمكن اقامة تجارب عملية دون الحاجة إلى الفرضية ؟
محاولة حل المشكلة:
الموقف1:
يذهب أنصار الاتجاه العقلي إلى أن الفرضية كفكرة تسبق التجربة أمر ضروري في البحث التجريبي ومن أهم المناصرين للفرضية كخطوة تمهيدية في المنهج التجريبي نجد بونكاري والفيلسوف الفرنسي كلود برنار ( 1878 – 1813 ) حيث يعتقدون بأنه من المستحيل إقامة تجربة دون الاعتماد على الفرضيات التي تعتبر العمود الفقري للمنهج التجريبي ولا جدوى منه في غيابها وهذا ما يعبر عنه كلود برنار بقوله : " إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن " وبالتالي نجد كلود برنار يعتبر الفرض العلمي خطوة من الخطوات الهامة في المنهج التجريبي أما المسلمة المعتمدة في هذه الأطروحة هو أن ” العقل أصل المعرفة وبالتالي فهو يعطينا الفكرة التي ننطلق منها في التجربة” ومن الحجج وهو في هذا الصدد نجد أن الانطلاقة الفعلية للتجارب لا تكون من الملاحظة لأن الملاحظة نجدها عند جميع الناس وانما تكون الانطلاقة عندما يتوصل العقل إلى الفرضية المناسبة يقول كلود برنار : « الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع و إليها ترجع كل مبادرة » ويقول ايضا : « ينبغي بالضرورة أن نقوم بالتجريب مع الفكرة المتكونة من قبل» كما أن المنهج التجريبي هو عبارة عن ثلاث خطوات منظمة ومرتبة تتبع بعضها البعض حيث تتسبب الملاحظة في طرح تساؤلات تؤدي الى وضع الفرضية المناسبة والتي نتأكد من صحتها بواسطة التجربة وإلغاء التجربة يؤدي إلى حدوث خلل في هذا المنهج وبالتالي يستحيل عليه ان يحقق لنا نتائج علمية ولذا يقول كلود برنار : « إن الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتحكمها والتجربة تحكم بدورها على الفكرة » وهذا ما يؤكده ايضا العالم الفرنسي هنري بوانكاري(1854-1912):َ«إن الملاحظة والتجربة لا تكفيان لإنشاء العلم فمن يقتصر عليهما يجهل صف العلم الأساسية» كما أن غياب الفرضية حسبه يجعل كل تجربة عقيمة وهذا ما جعله يصرح : «ذلك لأن الملاحظة الخالصة و التجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم » مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها العالم في بحثه تكون من بناء العقل وليس بتأثير من الأشياء الملاحظة ويقدم لنا كلود برنار أحسن مثال يؤكد فيه عن قيمة الفرضية و ذلك في حديثه عن العالم التجريبي ” فرانسوا هوبير” ، وهو يقول أن هذا العالم العظيم على الرغم من أنه كان أعمى إلا أنه ترك لنا تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجربها ، ولم تكن عند خادمه هذا أي فكرة علمية ، فكان هوبير العقل الموجه الذي يقيم التجربة لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره وكان الخادم يمثل الحواس السلبية التي تطبع العقل لتحقيق التجربة المقامة من أجل فكرة مسبقة . و بهذا المثال نكون قد أعطينا أكبر دليل على وجوب الفرضية وهي حجة منطقية تبين لنا أنه لا يمكن أن نتصور في تفسير الظواهر عدم وجود أفكار مسبقة و التي سنتأكد على صحتها أو خطئها بعد القيام بالتجربة .
النقد : صحيح أن الفرضية ضرورية للتجريب ولا غنى عنها ولكن كثيرا ما تكون الفرضيات غيبية لا تتلاءم مع الروح العلمية .
الموقف2:
وفي الجهة المقابلة نجد أنصار الفلسفة التجريبية و الذين يقرون بأن الحقيقة موجودة في الطبيعة و الوصول إليها لا يأتي إلا عن طريق الحواس أي أن الذهن غير قادر على أن يقودنا إلى حقيقة علمية,وبالتالي يجب الاستغناء عن الفرضية لأنها تعتبر عائق يقف في وجه التجربة العلمية . فالفروض جزء من التخمينات العقلية لهذا نجد هذا الاتجاه يحاربها بكل شدة ؛ حيث نجد على رأس هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل ( 1806 – 1873 ) الذي يقول فيها « إن الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين ، ولهذا يجب علينا أن نتجاوز هذا العائق وننتقل مباشرة من الملاحظة إلى التجربة » وينطلقون من المسلمة القائلة : "العقل يولد صفحة بيضاء ويستحيل عليه ان يعطينا افكارا قابلة للتجربة "وحججهم على ذلك هي أن الفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق لاعتمادها على الخيال والتخمين المعرض للشك في النتائج – لأنها تشكل الخطوة الأولى لتأسيس القانون العلمي بعد أن تحقق بالتجربة – هذا الذي دفع من قبل العالم نيوتن إلى القول : « أنا لا أصطنع الفروض » كما نجد “ما جندي” يرد على تلميذه كلود برنار : «اترك عباءتك ، و خيالك عند باب المخبر » حيث يؤكد أن الفرضية تقيد الملاحظة فيصبح العالم أسير أوهامه وتخيلاته اللامتناهية وهو ما ينعكس سلبا على التجربة ويحول دون إدراك الحقيقة العلمية ويشوه صورتها الصادقة.حيث نجده يقول" إن الملاحظة الجيدة تغنينا عن سائر الفروض " وقد استبدل ميل الفرضية بمجموعة من القواعد سماها بقواعد الاستقراء متمثلة في :( قاعدة الاتفاق أو التلازم في الحضور _ قاعدة الاختلاف أو التلازم في الغياب– قاعدة التلازم في التغير أو التغير النسبي – قاعدة البواقي) وهذه القواعد حسب ” ميل ” تغني البحث العلمي عن الفروض العلمية .
النقد: صحيح أن الفروض كثيرا ما تكون خارج الإطار وتعيق التجريب ولكن النزعة التجريبية قبلت المنهج الاستقرائي وقواعده لكنها تناست أن هذه المصادر هي نفسها من صنع العقل مثلها مثل الفرض أليس من التناقض أن نرفض هذا ونقبل بذاك .
التركيب:
من الرأيين السابقين ندرك أن الفرضية شرط ضروري للتجريب ويستحيل علينا الاستغناء عنها ولكن ينبغي ان تكون نابعة من الروح العلمية بعيدا عن الغيبيات ,لقد أحدثت فلسفة العلوم ( الابستمولوجيا ) تحسينات على الفرض – خاصة بعد جملة الاعتراضات التي تلقاها من النزعة التجريبية – ومنها : أنها وضعت لها ثلاثة شروط ( الشرط الأول يتمثل : أن يكون الفرض منبثقا من الملاحظة ، الشرط الثاني يتمثل : ألا يناقض الفرض ظواهر مؤكدة تثبت صحتها ، أما الشرط الأخير يتمثل : أن يكون الفرض كفيلا بتفسير جميع الحوادث المشاهدة ) ، كما أنه حسب “عبد الرحمان بدوي ” (1917 – 2002) لا نستطيع الاعتماد على العوامل الخارجية لتنشئة الفرضية لأنها برأيه « … مجرد فرص ومناسبات لوضع الفرض … » بل حسبه أيضا يعتبر العوامل الخارجية مشتركة بين جميع الناس ولو كان الفرض مرهونا بها لصار جميع الناس علماء وهذا أمر لا يثبته الواقع فالتفاحة التي شاهدها نيوتن شاهدها قبله الكثير لكن لا أحد منهم توصل إلى قانون الجاذبية . ولهذا نجد عبد الرحمان بدوي يركز على العوامل الباطنية ؛ «… أي على الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد » كما أن الكثير من الإكتشافات العلمية كان الفضل فيها يعود الى الملاحظة فقط كما هو الشأن مع لويس باستور الذي افترض ان الهواء يحتوي على جراثيم وهي التي تسبب التعفن رغم انه لم يتمكن من ملاحظة ذلك .
– وكمساهمة مني اعتقد أن الفرض من أكثر المساعي العلمية فعالية ، بل هو المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبها سواء كانت صحته مثبتة أو غير مثبتة ، لأن الفرض الذي لا تثبت صحته يساعد بعد فشله على توجيه الذهن وجهة أخرى وبذلك يساهم في إنشاء الفرض من جديد ؛ فالفكرة إذن منبع رائع للإبداع مولد للتفكير في مسائل جديدة لا يمكن للملاحظة الحسية أن تنتبه لها بدون الفرض العلمي .
حل المشكلة :
نستنتج في الأخير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال التفكير عامة ، لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته ، ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة ، تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخالص وقديما تنبه العالم المسلم الحسن بن الهيثم ( 965 – 1039 ) – قبل كلود برنار _ في مطلع القرن الحادي عشر بقوله عن ضرورة الفرضية « إني لأصل إلى الحق من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية و صورتها الأمور العقلية » ومعنى هذا أنه لكي ينتقل من المحسوس إلى المعقول ، لابد أن ينطلق من ظواهر تقوم عليها الفروض ، ثم من هذه القوانين التي هي صورة الظواهر الحسية .وهذا ما يأخذنا في نهاية المطاف الى التأكيد على قيمة الفرضية .