0 تصويتات
في تصنيف منوعات بواسطة (662ألف نقاط)
هل العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية أم إتصالية؟

_هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة؟

_هل الفكر سابق عن اللغة؟

_هل يمكن أن نفكر بدون لغة؟

_ هل يمتلك الإنسان معاني دون ألفاظ تقابلها؟

_هل الفكر و اللغة متطابقان؟

_هل قدرة الإنسان على التفكير تتناسب مع قدرته على التعبير؟

_ هل تعتقد أن الإنسان يفكر ثم يتكلم أم أنه يقوم بهما في الوقت نفسه؟

_هل صحيح أننا نفكر فيما نعجز عن قوله ؟

مقدمة: (طرح المشكلة)

إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه يستحيل عليه العيش بمعزل عن الغير لأن ضرورات الحياة تفرض عليه التعاون و التواصل مع الغير كما أنه في تفكير دائم في محيطه الخارجي و ما يحتويه من ظواهر بغية فهمه و تحقيق التكيف معه و لا يتأتى له تحقيق هذا التواصل و تبليغ هذه الأفكار إلا بواسطة اللغة التي تعتبر خاصية إنسانية وهي مجموعة من الإشارات و الرموز التي تستعمل للتواصل يعرفها لالاند"اللغة هي كل جملة من الإشارت و الرموز التي يمكن أن تكون وسيلة للتواصل"

إلا أن ما أثار جدال و تضارب آراء المفكرين و الفلاسفة هو العلاقة بين اللغة و الفكر حيث إنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى أن العلاقة بين اللغة الفكر إنفصالية أي أن اللغة عاجزة عن إستيعاب كل أفكار الإنسان و تيار يرى أن العلاقة بين اللغة والفكر إتصالية أي أنه يستحيل أن نفكر بدون لغة

أمام هذا الجدال الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو: هل العلاقة بين اللغة والفكر إنفصال ام إتصال؟ هل تستطيع اللغة أن تعبر عن كل أفكارنا؟ هل يوجد فكر خارج حدود اللغة؟

العرض: (محاولة حل المشكلة)

عرض منطق الأطروحة: "العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية "

 إن الفكر واللغة ملكتين منفصلتين فالإنسان يعي بأن الفكر سابق عن اللغة و أوسع منها و أنه لا يوجد تطابق و تناسب بين عالمي الأفكار و الألفاظ فالفكر يتميز بخاصية الاتصال فالإنسان لا يمكنه التوقف عن التفكير لأنه يتميز بالديمومة والاستمرارية بينما اللغة تميزها صفة الانفصال التي تجعلنا نستطيع التوقف عن استعمال اللغة و يمثل هذا الموقف كل من "برغسون ،ديكارت ،كارل ياسبيرس، و فاليري" و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:

إن الفكر جوهر لا مادي و مبدأ كل وجود و يمثل العالم الداخلي و الذاتي للفرد بمعنى انه يجري داخل ذاتية الفرد بينما اللغة ظاهرة اجتماعية بمعنى لا لغة الا في المجتمع فاللغة مكتسبة يكتسبها الفرد بالتقليد و التعلم ولا يتيسر اكتسابها الا في وسط اجتماعي لان المجتمع هو الذي يفرض اللغة على الانسان لأن من ضروريات الاجتماع امكانية التواصل و التفاهم وهذا التفاهم و التواصل يتم وفق لغة المجتمع يقول برغسون في هذا الشأن "الفكر ذاتي وفردي واللغة موضوعية واجتماعية"

أن التجربة والملاحظة تبين أن التفكير سابق عن اللغة فكثيرا ما تنبثق الفكرة في أذهاننا ونبقى نبحث عن العبارة التي تؤديها وتبلغها لغيرنا وبالتالي فالفكرة تكون في لحظة ما موجودة في الذهن بدون لغة تجسدها ومن هنا يظهر بوضوح أن الفكرة سابقة في الوجود عن اللغة فالانسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهم أمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن ذلك . كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين ، أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد ... و في هذا المعنى يقول برغسون " إننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصوات "و يقول كذلك "اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر" ،  

فالإنسان بإمكانه التفكير بدون لغة فسلوك بعض الصم البكم ينم عن تفكير سيلم حيث نجد بعضهم يهتمون بشؤون السياسة ويدلون بآرائه فيها بواسطة إشارات يتواضعون –يتفقون عليها- مع من يناقشهم وهو ما يتبين معه أن الإنسان بإمكانه أن يستعمل إشارات أخرى غير اللغة للتعبير عن أفكاره يقول ديكارت" إن الكلام يحول دون تقدمي و ألفاظ اللغة الجارية تكاد تخدعني" و يقول برغسون" اللغة تحجر الفكر" فاللغة تقيد الفكر و تثبطه و تجمد الفكر في قوالب و أنماط واحدة و ذلك بسبب طبيعتها المحدودة و الثابتة يقول في هذا كارل ياسبيرس"اللغة تجبر الفرد أن يسلك طريق واحد و بهذا يصبح أفراد المجتمع الواحد كأنهم يفكرون نفس التفكير "

 كما تثبت التجربة النفسية عجز اللغة عن تبليغ أفكارنا فالجانب الوجداني للإنسان نجد اللغة عاجزة عن نقله و الافصاح عنه فالفكرة ترتبط بالشعور وهي تحمل كل مضامينه ومعانيه العميقة من انفعالات وعواطف كالحزن والسعادة والحب وعندما يريد المرء التعبير عنها وإبلاغها للآخرين يخرجها بشكل عبارات لغوية رمزية خالية من الشعور والحياة و كمثال على ذلك أن الأم عندما تسمع بخبر نجاح ابنها تلجأ إلى الدموع للتعبير عن حالتها الفكرية والشعورية يقول لامارتين "إن كلماتي من ثلج فكيف تحتوي في داخلها النيران" وهذا يدل على أن اللغة عاجزة عن تبليغ أفكارنا ومن هنا لجا الإنسان إلى وسائل أخرى كالشعر والفن والموسيقى وغيرها من أشكال الفن من اجل التعبير عن مشاعره وأحاسيسه يقول فاليري" إن أجمل الأشعار هي تلك التي لم تكتب" و قيل كذلك " الالفاظ قبور المعاني". و منه نستنتج أن العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية.

نقد و مناقشة: رغم أن اللغة تعجز أحيانا في التعبير عن أفكارنا و أن الفكر سابق و أوسع منها إلا أن هذا الاتجاه الثنائي بالغ كثيرا في التقليل من قيمة اللغة في مقابل رفعه من شأن الفكر فحتى وان افترضنا اسبقية الفكر عن اللغة فلا تكون له قيمة ولا يصير معروفا إلا إذا اندرج في قوالب لغوية كما أن الدراسات النفسية المعاصرة أثبتت أن تكوين المعاني والأفكار عند الأطفال يتم في اللحظة نفسها مع تعلم اللغة واكتسابها وهو ما يدل على أنه يتعلم التفكير عن طريق اللغة فهو يفكر باللغة ومنه فحضور الفكر يستلزم عنه حضور اللغة وهو ما يجعلهما وجهتين مختلفتين لعملة واحدة .

عرض نقيض الأطروحة: "العلاقة بين اللغة و الفكر إتصالية"

إن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة إتصال و تطابق ،فاللغة و الفكر يشكلان فاعلية ذهنية لا يمكن تجزئتهما و لا يمكن القول بأسبقية أحدهما عن الآخر فاللغة بإعتبارها خاصية اساسية للانسان من حيث هو كائن اجتماعي فهي كذلك ضرورية من حيث هو كائن مفكر ومن ثمة فان اللغة مرتبطة بالتفكير ارتباطا لا انقطاع فيه و يمثل هذا الموقف كل من "هيجل ، كوندياك،دي سوسير و بنفست" و يبررون موقفهم هذا بالحجج و البراهين الآتية:

إن قدرة الإنسان على التفكير تتناسب مع قدرته على التعبير ،فعالم الأفكار يتطابق مع عالم الأفكار ولا وجود لأفكار خارج إطار اللغة، فبين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة، باعتبار أن الفكر لغة صامتة واللغة فكر ناطق فلا تفكير بدون لغة ولا لغة بدون تفكير يقول دي سوسير " إن هذا الصمت المزعوم هو في الحقيقة ضجيج من الكلمات" و يقول واطسن" إننا نتكلم بفكرنا و نفكر بلغتنا" فكل محاولة تفكير دون لغة هي محاولة فاشلة و مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا على مادة اللغة يقول هيجل "أن محاولة التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة الجدوى "

إن الفكر لا يتحقق ولا يتجسد إلا بفضل اللغة فاللغة هي الوعاء الذي يصب فيه الأفكار فالفكر هو الكلام ذاته و طريقة تركيبه فنحن لا نتعرف على الفكرة و صحتها إلا لكونها قابلة أن يتصورها الآخرون فتتمايز الأفكار عند التعبير عنها يقول كوندياك "أن فن التفكير هو فن إتقان الكلام "فاللغة هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ، ولولاها لبقي كامنا عدما ، لذلك قيل "الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا" و يقول هيجل " الكلمة تمنح للفكرة وجودها الحقيقي و الأسمى"

 إن اللغة تثري الفكر و تنميه فكلما زادت الثروة اللغوية للإنسان إزدادت قدرته على التفكير و إزداد ذكاؤه نموا و عليه فالفكرة التي لا يستطيع الإنسان التعبير عنها ليس سببها عجز اللغة و محدوديتها بل أن هذه الفكرة لازالت غامضة و لم تتكون بعد بحيث أن صاحبها لا يعيها بوضوح و لا يملك الزاد اللغوي الكافي للتعبير و الإفصاح عنها فلا يوجد تصور في الذهن بدون لفظ يكونه يقول بنفست" إن الذهن لا يحتوي على أشكال خاوية" ،فقد أثبت علم النفس أن الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة . وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها فالطفل يبقى يجهل العالم الذي يحيط به إلى أن يبدأ بتعلم الألفاظ و الجمل و مسميات الأشياء فتتكون لديه الأفكار فنموه الفكري مرتبط بنموه اللغوي يقول ألان "أن تفكير الطفل و تكوين المعاني و نمو المعارف لديه مقترن بنمو عملية اكتساب اللغة حيث يكتشف المعاني في اللغة "  

كما اللغة تسبغ عن الفكر حلة اجتماعية وتكسبه صفة المعقول لان اللغة الة التفاهم بين الناس فهي التي تحرر الفكر من الطابع الذاتي للفرد ليصير خبرة إنسانية قابلة للتحليل و الفهم و التداول بين الناس لذلك يقول هاملتون "الألفاظ حصون المعاني" ، و ما يؤكد كذلك على الترابط الوثيق بين اللغة و الفكر هو ما تقدمه اللغة من فضل للفكر الإنساني إذ أنها تنظم الفكر و تحفظه فهي لا تقوم بوظيفة التدليل فقط بل بالتنظيم كذلك وبفضلها يصبح التفاهم مع الغير ممكنا.كما أن اللغة اداة تواصل الافكار من جيل الى اخر فهي اقوى عوامل الوحدة بين الاجيال و احسن وعاء لحفظ تراث الماضي والانساني وتوارثه بين الأجيال يقول ماكس مولر "و ما كان للإنسان أن يقدس اللغة حبا بها أو تعشقا إلى أنغامها...و إنما لأنها سجل تفكيره ،فهي تحفظه له و تنقله إلى إخوانه في الإنسانية و إلى من يتلوه من الأحياء". و عليه فالعلاقة بين اللغة و الفكر علاقة إتصال و تطابق

نقد و مناقشة: رغم الدور الذي تلعبه اللغة في تجسيد الفكر و حفظه إلا أن هذا التيار الأحادي بالغ كثيرا في تمجيده للغة فالواقع يثبت أن اللغة عاجزة عن إستيعاب كل أفكارنا و أن الإنسان يستغرق وقتا طويلا لكي يجد اللفظ المناسب لما يفكر فيه خاصة حينما يتعلق الأمر بالجانب الوجداني لذلك يقول شوبنهاور"إن الكلمات تعجز عن وصف شعوري" كما أنه لو كانت اللغة والفكر شيئا واحد لإكتفينا بأحدهما دون الآخر و لكانت أفكارنا واحدة كما أن هذا الطرح يوقعنا في تناقض فإما أن تكون أفكارنا ثابتة تبعا لثبات اللغة و إما أن تكون اللغة متغيرة تبعا لتغير الأفكار.

التركيب: على ضوء ما سبق نقول أن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة تأثير متبادل فرغم أن اللغة قد تقصر أحيانا عن التعبير عن الأفكار بناء على أن قدرتنا على الفهم لا تناسب دائما قدرتنا على التبليغ، إلا أنه لابد من التسليم بوجود علاقة ترابط بين الفكر واللغة، وهذا ما تؤكده الدراسات والأبحاث العلمية اللسانية، وهذه العلاقة تشبه العلاقة بين وجه الورقة النقدية وظهرها، حيث أن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، و بالتالي فكلاهما يكمل الأخر يقول ماكس مولر" اللغة و الفكر كقطعة نقدية واحدة وجهها الأول الفكر ووجهها الثاني اللغة وإذا فسد أي وجه من الوجهين فسدت القطعة فالفكر بالنسبة للغة كالروح بالنسبة للجســـد ".

خاتمة: (حل المشكلة)

و في الأخير نستنتج أن اللغة و الفكر متلازمان فرغم الإختلاف الموجود بينهما من حيث الدور و الطبيعة إلا أنهما يشكلان كيانا واحدا و لهما غاية مشتركة و هي تحقيق التواصل و التفاهم الإنساني و الإجتماعي كلاهما تتحدد ماهية الإنسان باعتباره الكائن المفكر الوحيد كما أنه الوحيد الذي يمتلك لغة واعية تعبر عن أفكاره و عليه فكلاهما يتضمن الأخر و يشترطه و لا وجود لأحدهما دون الآخر ،فاللغة تعبر عن الفكر و الفكر يصنع اللغة و هذا ما تلخصه مقولة دولاكروا" الفكر يصنع اللغة و هي تصنعه"

الأستاذ بلعربي.

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (662ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
هل العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية أم إتصالية؟

_هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة؟

_هل الفكر سابق عن اللغة؟

_هل يمكن أن نفكر بدون لغة؟

_ هل يمتلك الإنسان معاني دون ألفاظ تقابلها؟

_هل الفكر و اللغة متطابقان؟

_هل قدرة الإنسان على التفكير تتناسب مع قدرته على التعبير؟

_ هل تعتقد أن الإنسان يفكر ثم يتكلم أم أنه يقوم بهما في الوقت نفسه؟

_هل صحيح أننا نفكر فيما نعجز عن قوله ؟

مقدمة: (طرح المشكلة)

إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه يستحيل عليه العيش بمعزل عن الغير لأن ضرورات الحياة تفرض عليه التعاون و التواصل مع الغير كما أنه في تفكير دائم في محيطه الخارجي و ما يحتويه من ظواهر بغية فهمه و تحقيق التكيف معه و لا يتأتى له تحقيق هذا التواصل و تبليغ هذه الأفكار إلا بواسطة اللغة التي تعتبر خاصية إنسانية وهي مجموعة من الإشارات و الرموز التي تستعمل للتواصل يعرفها لالاند"اللغة هي كل جملة من الإشارت و الرموز التي يمكن أن تكون وسيلة للتواصل"

إلا أن ما أثار جدال و تضارب آراء المفكرين و الفلاسفة هو العلاقة بين اللغة و الفكر حيث إنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى أن العلاقة بين اللغة الفكر إنفصالية أي أن اللغة عاجزة عن إستيعاب كل أفكار الإنسان و تيار يرى أن العلاقة بين اللغة والفكر إتصالية أي أنه يستحيل أن نفكر بدون لغة

أمام هذا الجدال الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو: هل العلاقة بين اللغة والفكر إنفصال ام إتصال؟ هل تستطيع اللغة أن تعبر عن كل أفكارنا؟ هل يوجد فكر خارج حدود اللغة؟

العرض: (محاولة حل المشكلة)

عرض منطق الأطروحة: "العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية "

 إن الفكر واللغة ملكتين منفصلتين فالإنسان يعي بأن الفكر سابق عن اللغة و أوسع منها و أنه لا يوجد تطابق و تناسب بين عالمي الأفكار و الألفاظ فالفكر يتميز بخاصية الاتصال فالإنسان لا يمكنه التوقف عن التفكير لأنه يتميز بالديمومة والاستمرارية بينما اللغة تميزها صفة الانفصال التي تجعلنا نستطيع التوقف عن استعمال اللغة و يمثل هذا الموقف كل من "برغسون ،ديكارت ،كارل ياسبيرس، و فاليري" و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:

إن الفكر جوهر لا مادي و مبدأ كل وجود و يمثل العالم الداخلي و الذاتي للفرد بمعنى انه يجري داخل ذاتية الفرد بينما اللغة ظاهرة اجتماعية بمعنى لا لغة الا في المجتمع فاللغة مكتسبة يكتسبها الفرد بالتقليد و التعلم ولا يتيسر اكتسابها الا في وسط اجتماعي لان المجتمع هو الذي يفرض اللغة على الانسان لأن من ضروريات الاجتماع امكانية التواصل و التفاهم وهذا التفاهم و التواصل يتم وفق لغة المجتمع يقول برغسون في هذا الشأن "الفكر ذاتي وفردي واللغة موضوعية واجتماعية"

أن التجربة والملاحظة تبين أن التفكير سابق عن اللغة فكثيرا ما تنبثق الفكرة في أذهاننا ونبقى نبحث عن العبارة التي تؤديها وتبلغها لغيرنا وبالتالي فالفكرة تكون في لحظة ما موجودة في الذهن بدون لغة تجسدها ومن هنا يظهر بوضوح أن الفكرة سابقة في الوجود عن اللغة فالانسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهم أمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن ذلك . كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين ، أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد ... و في هذا المعنى يقول برغسون " إننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصوات "و يقول كذلك "اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر" ،  

فالإنسان بإمكانه التفكير بدون لغة فسلوك بعض الصم البكم ينم عن تفكير سيلم حيث نجد بعضهم يهتمون بشؤون السياسة ويدلون بآرائه فيها بواسطة إشارات يتواضعون –يتفقون عليها- مع من يناقشهم وهو ما يتبين معه أن الإنسان بإمكانه أن يستعمل إشارات أخرى غير اللغة للتعبير عن أفكاره يقول ديكارت" إن الكلام يحول دون تقدمي و ألفاظ اللغة الجارية تكاد تخدعني" و يقول برغسون" اللغة تحجر الفكر" فاللغة تقيد الفكر و تثبطه و تجمد الفكر في قوالب و أنماط واحدة و ذلك بسبب طبيعتها المحدودة و الثابتة يقول في هذا كارل ياسبيرس"اللغة تجبر الفرد أن يسلك طريق واحد و بهذا يصبح أفراد المجتمع الواحد كأنهم يفكرون نفس التفكير "

 كما تثبت التجربة النفسية عجز اللغة عن تبليغ أفكارنا فالجانب الوجداني للإنسان نجد اللغة عاجزة عن نقله و الافصاح عنه فالفكرة ترتبط بالشعور وهي تحمل كل مضامينه ومعانيه العميقة من انفعالات وعواطف كالحزن والسعادة والحب وعندما يريد المرء التعبير عنها وإبلاغها للآخرين يخرجها بشكل عبارات لغوية رمزية خالية من الشعور والحياة و كمثال على ذلك أن الأم عندما تسمع بخبر نجاح ابنها تلجأ إلى الدموع للتعبير عن حالتها الفكرية والشعورية يقول لامارتين "إن كلماتي من ثلج فكيف تحتوي في داخلها النيران" وهذا يدل على أن اللغة عاجزة عن تبليغ أفكارنا ومن هنا لجا الإنسان إلى وسائل أخرى كالشعر والفن والموسيقى وغيرها من أشكال الفن من اجل التعبير عن مشاعره وأحاسيسه يقول فاليري" إن أجمل الأشعار هي تلك التي لم تكتب" و قيل كذلك " الالفاظ قبور المعاني". و منه نستنتج أن العلاقة بين اللغة و الفكر إنفصالية.

نقد و مناقشة: رغم أن اللغة تعجز أحيانا في التعبير عن أفكارنا و أن الفكر سابق و أوسع منها إلا أن هذا الاتجاه الثنائي بالغ كثيرا في التقليل من قيمة اللغة في مقابل رفعه من شأن الفكر فحتى وان افترضنا اسبقية الفكر عن اللغة فلا تكون له قيمة ولا يصير معروفا إلا إذا اندرج في قوالب لغوية كما أن الدراسات النفسية المعاصرة أثبتت أن تكوين المعاني والأفكار عند الأطفال يتم في اللحظة نفسها مع تعلم اللغة واكتسابها وهو ما يدل على أنه يتعلم التفكير عن طريق اللغة فهو يفكر باللغة ومنه فحضور الفكر يستلزم عنه حضور اللغة وهو ما يجعلهما وجهتين مختلفتين لعملة واحدة .

عرض نقيض الأطروحة: "العلاقة بين اللغة و الفكر إتصالية"

إن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة إتصال و تطابق ،فاللغة و الفكر يشكلان فاعلية ذهنية لا يمكن تجزئتهما و لا يمكن القول بأسبقية أحدهما عن الآخر فاللغة بإعتبارها خاصية اساسية للانسان من حيث هو كائن اجتماعي فهي كذلك ضرورية من حيث هو كائن مفكر ومن ثمة فان اللغة مرتبطة بالتفكير ارتباطا لا انقطاع فيه و يمثل هذا الموقف كل من "هيجل ، كوندياك،دي سوسير و بنفست" و يبررون موقفهم هذا بالحجج و البراهين الآتية:

إن قدرة الإنسان على التفكير تتناسب مع قدرته على التعبير ،فعالم الأفكار يتطابق مع عالم الأفكار ولا وجود لأفكار خارج إطار اللغة، فبين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة، باعتبار أن الفكر لغة صامتة واللغة فكر ناطق فلا تفكير بدون لغة ولا لغة بدون تفكير يقول دي سوسير " إن هذا الصمت المزعوم هو في الحقيقة ضجيج من الكلمات" و يقول واطسن" إننا نتكلم بفكرنا و نفكر بلغتنا" فكل محاولة تفكير دون لغة هي محاولة فاشلة و مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا على مادة اللغة يقول هيجل "أن محاولة التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة الجدوى "

إن الفكر لا يتحقق ولا يتجسد إلا بفضل اللغة فاللغة هي الوعاء الذي يصب فيه الأفكار فالفكر هو الكلام ذاته و طريقة تركيبه فنحن لا نتعرف على الفكرة و صحتها إلا لكونها قابلة أن يتصورها الآخرون فتتمايز الأفكار عند التعبير عنها يقول كوندياك "أن فن التفكير هو فن إتقان الكلام "فاللغة هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ، ولولاها لبقي كامنا عدما ، لذلك قيل "الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا" و يقول هيجل " الكلمة تمنح للفكرة وجودها الحقيقي و الأسمى"

 إن اللغة تثري الفكر و تنميه فكلما زادت الثروة اللغوية للإنسان إزدادت قدرته على التفكير و إزداد ذكاؤه نموا و عليه فالفكرة التي لا يستطيع الإنسان التعبير عنها ليس سببها عجز اللغة و محدوديتها بل أن هذه الفكرة لازالت غامضة و لم تتكون بعد بحيث أن صاحبها لا يعيها بوضوح و لا يملك الزاد اللغوي الكافي للتعبير و الإفصاح عنها فلا يوجد تصور في الذهن بدون لفظ يكونه يقول بنفست" إن الذهن لا يحتوي على أشكال خاوية" ،فقد أثبت علم النفس أن الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة . وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها فالطفل يبقى يجهل العالم الذي يحيط به إلى أن يبدأ بتعلم الألفاظ و الجمل و مسميات الأشياء فتتكون لديه الأفكار فنموه الفكري مرتبط بنموه اللغوي يقول ألان "أن تفكير الطفل و تكوين المعاني و نمو المعارف لديه مقترن بنمو عملية اكتساب اللغة حيث يكتشف المعاني في اللغة "  

كما اللغة تسبغ عن الفكر حلة اجتماعية وتكسبه صفة المعقول لان اللغة الة التفاهم بين الناس فهي التي تحرر الفكر من الطابع الذاتي للفرد ليصير خبرة إنسانية قابلة للتحليل و الفهم و التداول بين الناس لذلك يقول هاملتون "الألفاظ حصون المعاني" ، و ما يؤكد كذلك على الترابط الوثيق بين اللغة و الفكر هو ما تقدمه اللغة من فضل للفكر الإنساني إذ أنها تنظم الفكر و تحفظه فهي لا تقوم بوظيفة التدليل فقط بل بالتنظيم كذلك وبفضلها يصبح التفاهم مع الغير ممكنا.كما أن اللغة اداة تواصل الافكار من جيل الى اخر فهي اقوى عوامل الوحدة بين الاجيال و احسن وعاء لحفظ تراث الماضي والانساني وتوارثه بين الأجيال يقول ماكس مولر "و ما كان للإنسان أن يقدس اللغة حبا بها أو تعشقا إلى أنغامها...و إنما لأنها سجل تفكيره ،فهي تحفظه له و تنقله إلى إخوانه في الإنسانية و إلى من يتلوه من الأحياء". و عليه فالعلاقة بين اللغة و الفكر علاقة إتصال و تطابق

نقد و مناقشة: رغم الدور الذي تلعبه اللغة في تجسيد الفكر و حفظه إلا أن هذا التيار الأحادي بالغ كثيرا في تمجيده للغة فالواقع يثبت أن اللغة عاجزة عن إستيعاب كل أفكارنا و أن الإنسان يستغرق وقتا طويلا لكي يجد اللفظ المناسب لما يفكر فيه خاصة حينما يتعلق الأمر بالجانب الوجداني لذلك يقول شوبنهاور"إن الكلمات تعجز عن وصف شعوري" كما أنه لو كانت اللغة والفكر شيئا واحد لإكتفينا بأحدهما دون الآخر و لكانت أفكارنا واحدة كما أن هذا الطرح يوقعنا في تناقض فإما أن تكون أفكارنا ثابتة تبعا لثبات اللغة و إما أن تكون اللغة متغيرة تبعا لتغير الأفكار.

التركيب: على ضوء ما سبق نقول أن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة تأثير متبادل فرغم أن اللغة قد تقصر أحيانا عن التعبير عن الأفكار بناء على أن قدرتنا على الفهم لا تناسب دائما قدرتنا على التبليغ، إلا أنه لابد من التسليم بوجود علاقة ترابط بين الفكر واللغة، وهذا ما تؤكده الدراسات والأبحاث العلمية اللسانية، وهذه العلاقة تشبه العلاقة بين وجه الورقة النقدية وظهرها، حيث أن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، و بالتالي فكلاهما يكمل الأخر يقول ماكس مولر" اللغة و الفكر كقطعة نقدية واحدة وجهها الأول الفكر ووجهها الثاني اللغة وإذا فسد أي وجه من الوجهين فسدت القطعة فالفكر بالنسبة للغة كالروح بالنسبة للجســـد ".

خاتمة: (حل المشكلة)

و في الأخير نستنتج أن اللغة و الفكر متلازمان فرغم الإختلاف الموجود بينهما من حيث الدور و الطبيعة إلا أنهما يشكلان كيانا واحدا و لهما غاية مشتركة و هي تحقيق التواصل و التفاهم الإنساني و الإجتماعي كلاهما تتحدد ماهية الإنسان باعتباره الكائن المفكر الوحيد كما أنه الوحيد الذي يمتلك لغة واعية تعبر عن أفكاره و عليه فكلاهما يتضمن الأخر و يشترطه و لا وجود لأحدهما دون الآخر ،فاللغة تعبر عن الفكر و الفكر يصنع اللغة و هذا ما تلخصه مقولة دولاكروا" الفكر يصنع اللغة و هي تصنعه"

الأستاذ بلعربي.

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى موقع صحيح الحل، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين
...