0 تصويتات
في تصنيف أخباري بواسطة (662ألف نقاط)
نص السؤال : هل قوام الحياة النفسية الشعور أم اللاشعور ؟                                                         

 هل يمكن تفسبر جميع السلوكات البشرية بإرجاعها إلى الوعي ؟                                  

  طرح المشكلة إن محاولة فهم الكيان البشري ، ستحيلنا بالضرورة للتعرض إلى جانبين مهمين منه ، أحدهما مادي خاضع لقوانين الطبيعة ،وآخر نفسي مفارق للجسد . فالإنسان ينطوي على كيان داخلي شعوري ، مهم ، يحدد له شخصيته ووجوده الذهني . ونظرا لأهميته ، فقد سعى العلماء والفلاسفة الى تفسير ماهيته .غير أن ذلك التفسير لم يكن محلا للإجماع ففي الوقت الذي ذهب فيه أنصار الطرح الكلاسيكي إلى اعتبار الحياة النفسية شعورية خالصة ، خالفهم أنصار السيكولوجيا المعاصرة بأن أقروا أن الحياة النفسية ترجع إلى اللاشعور ، كجانب وجداني مظلم ، دائم النشاط ومحدد للسلوك . وأمام هذا الجدل صار من المشروع أن نطرح المشكلة التالية : هل يمكن القول أن سلوكات البشر ترتد إلى حالات شعورية واعية ؟ وإذاكان العكس ، فهل هذا يعني أن هناك جانبا آخر للحياة النفسية ؟

محاولة حل المشكلة :

الاطروحة الاولى : يرى مفكروا وفلاسفة الفكر الكلاسيكي ، أن قوام الحياة النفسية هو الشعور كخاصية دائمة ، لصيقة بالإنسان . فلا وجود لجانب لا شعوري ، لأن فهم جميع السلوكات نرده إلى الوعي الدائم لما يجري في النفس من أحول . فلا يمكن ان تطرأ حال على النفس دون ان نكون في حالة وجدانية تسمح لنا بالإدراك الواضح لها . ويعتمد دعاة الخاصية الشعورية للنفس على عدة حجج . فما تكرارنا الدائم لعبارة "أنا أشعر" إلا دليل على وعينا الدائم لذواتنا . وقد أكد فيلسوف الإسلام "ابن سينا" أن أساس إثبات خلود النفس هو الشعور ، فإذا تجرد الإنسان من التفكير في كل محسوس ومعقول فلا يمكن أن يتجرد من التفكير في أنه موجود ، إذ يقول في ذلك : " إن الشعور هوتغير في اتصال " فمهما تنوعت حالاتنا النفسية وتعددت إلا أن القاسم المشترك بينها يبقى الشعور والوعي الدائمان . ويذهب أبو الفلسفة الحديثة "روني ديكارت" إلى رد جميع تصرفاتنا للحياة الشعورية ، فالتسليم عنده بثنائية النفس والجسد يقود للتسليم بأن النفس تعي جميع أحوالها . فالتفكير صفة جوهرية لأن العقل يستطيع تأمل جميع أفكاره والشعور بها ، والنفس لا تنقطع عن التفكير فيما يخالجها إلا إذا تلاشى وجودها . ومن هنا يقول : " إن وجودي يستمر بمقدار ما يستمر التفكير . وإذا انقطع التفكير انقطع الوجود أيضا " . ويضيف أيضا : " ليست هناك حياة أخرى خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية " .وقد أثرت أفكار "ديكارت" في الفيلسوف الظواهري "إدموند هوسرل" الذي يقول : " الشعور هو دوما شعور بشيء ما " ، وعلى "جان بول سارتر" أيضا الذي جعل الشعور الدائم قواما للحياة النفسية ، ولنظريته في الحرية المطلقة للوجود لذاته . فهذه الأخيرة تستلزم دوما ذلك القلق الوجودي المتمثل في معاناة المواقف الحياتية شعوريا . وفي هذا يقول "سارتر" : " لا توجد للشعور إلا طريقة واحدة في الوجود ، وهي أن يشعر بأنه موجود " .وفي الفلسفة المعاصرة يبرز لنا زعيم النزعة الحدسية "هنري برغسون" ، كي يعترف أن الشعور ديمومة لا تنتهي ، فلا وجود لما هو غير حدسي ، بل كل ما في الأمر أن بعض الحالات النفسية يكون الشعور بها خافتالكنه لا ينقطع ، نسميه " ماتحت الشعور " ، وفي هذا يقول : " إن حياتنا الواعية لحن كبير ، مطرد النغم ، يستهل بولادتنا وينتهي بموتنا " . والحياة النفسية تكون بذلك اتصالا يبدأ في الماضي ويمتد في الحاضر والمستقبل .

النقد والمناقشة : لا يمكن إنكار ماذهب إليه أنصار الطرح الكلاسيكي في موقفهم الشعوري ، من حيث أن الوعي خاصية مميزة للبشر . لكن التجربة اليومية تبين بوضوح قيامنا بعديد السلوكات دون أن نجد لها مرجعية مقنعة ، تفسرها ، فس ساحة الشعور . ألا يعني هذا أن خاصية الشعور لا تستطيع استيعاب جميع سلوكاتنا ؟!

الاطروحة الثانية : خلافا للموقف الكلاسيكي ، يذهب أنصار السيكولوجيا المعاصرة ، بواسطة مدرسة التحليل النفسي إلى أن قوام الحياة النفسية هو اللاشعور كجانب مظلم يحتل جزءا هاما من أحوال النفس . وقد ظهر هذا التفسير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد أطباء أمثال "بروير" و "شاركو" و "برنهايم" ، وخاصة الطبيب والمحلل النفساني " سيغموند فرويد " . وقد قدم "فرويد" عدة حجج عقلية وتعليلية غير مباشرة ، وحجج الحيل وغيرها . فاللاشعور ألصق مايكون بنا ، وأبعد مايكون عن إدراكنا ، وهوضروري ـ انطلاقا من مبدأ السببية ـ لتفسبر أفعال تصدر من كل شخص سليم كالهفوات والأحلام وفهم الأعراض الباثولوجية) المرضية (لدى المريض . إن التجربة اليومية تواجهنا بافكار تأتينا دون معرفة مصدرها فلا نجد إلا فرض اللاشعور لتفسيرها . لذلك فاللاشعور حسب "فرويد" ضروري لإدراك مدلول الهفوات ، كفلتا ت اللسان وزلات القلم والقراءةالخاطئة والخطأ في السمع والنسيان المؤقت وإضاعة الأشياء . ومن القصص التي يرويها فرويد عن فلتات اللسان ، افتتاح رئيس مجلس نيابي للجلسة بقوله : " أيها السادة أتشرف بإعلان رفع الجلسة " ، وبذلك يكون قد عبر لا شعوريا عن عدم ارتياحه لما قد تسفر عنه الجلسة . ثم إن التسليم بوجود اللاشعور هو الحاسم الوحيد لإظهار العلاقة بين الرغبات المكبوتة والأحلام . حيث يرى "فرويد" أن الأحلام هي نتيجة الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تعمل على قهر الرغبات وكبتها . ويروي في هذا السياق ـ المحلل النفسي الأمريكي "فرينك" أن إحدى المريضات وجدت نفسها في المنام تشتري قبعة سوداء جميلة وغالية في الثمن ، فربط حلمها برغباتها اللاشعورية ، إذ أن في حياتها زوجا متقدما في السن تتمنى موته وإقامة الحداد عليه ولبس الأسود الذي هو لون القبعة ، وتريد زوجا غنيا ووسيما من خلال القبعة الجميلة والغالية في ثمنها .ويمكن التماس اللاشعور أيضا من خلال الحيل التي يستخدمها العقل دون شعور ، ويستخدمها لتغطية نقص أو فشل ، كالتعويض والتبرير والنسيان وغيرها . ومن امثلة التعويض مثلا ان الفتاة القصيرة تخفف من عقدتها النفسية بانتعالها أعلى النعال وهذا التصرف هو سلوك يرتد إلى نشاط نفسي تعويضي لا يخضع للوعي والمراقبة . وانطلاقا مما سبق يمكن القول أن "فرويد" يرد جميع تصرفاتنا إلى الرغبات المكتوبة في اللاشعور . يقول "فرويد" : " كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض ، وجب علينا أن نستنتج لدى المريض وجود بعض النشاطات اللاشعورية التي تحتوي على مدلول هذا المرض " .

النقد والمناقشة : لكن النظرية اللاشعورية تبقى فرضا فلسفيا لا يقينيا علميا ، إذ أنها لاقت عدة اعتراضات خاصة من رجال الدين والأخلاق اللذين رأوا أن "فرويد" جعل من الإنسان كائنا غريزيا تحركه رغباته المكبوتة . حتى أن الطبيب النمساوي "ستيكال" الذي كان يؤمن باللاشعور في مراحله الأولى اكتشف فيما بعد أن الأفكار التي يظهر أنها مكبوتة ، هي أفكار ما تحت شعورية وأن الناس بطبعهم يميلون لتجاهل وطرد الحقائق المؤلمة ، وهذه الأخيرة ليست لاشعورية بل هي تحت شعورية . ونجد في هذا السياق "سارتر" يرفض فكرة اللاشعور لأن الإنسان كائن حر وحريته تعني أن السلوك الإنساني يحيى في مجال الشعور .

التركيب :من خلال التمعن في الموقفين السابقين ، لايمكن أن ننكر الخاصية الشعورية الواعية للإنسان لأن إنكارها يعني وضعه في خانة الوجود المادي . كما لا يمكن إنكار اللاشعور كواقع يعيشه الإنسان ويؤثر في سلوكه ، لأن التفسيرات التي قدمتها مدرسة التحليل النفسي لا يمكن إلغاؤها بشكل مطلق ، فالحياة النفسية ذات طبيعة مزدوجة ، يقتسمها جانبان ، الأول شعوري والثاني لا شعوري ، وهما متكاملان في رسم الشخصية البشرية على اساس التكامل الحركي لا الجمع الرياضي .

 حل المشكلة :

الخاتمة :نستنتج في الأخير أن الإنسان يعيش حياة نفسية معقدة ،يصعب الفصل فيها والحسم في أمرها غير أن هذا لن يمنعنا من الاعتراف بتكامل الشعور واللاشعور في بنائها . وتجدر الإشارة إلى أن النظرية اللاشعورية ، رغم ما تعرضت له من انتقادات إلا أنها تبقى ثورة في مجال المعرفة لفهم الواقع البشري . وقد دفعت النظرية اللاشعورية العلماء إلى تكثيف الدراسات من أجل تجاوز نقائص "فرويد" وتعديلها ودفعت الفلاسفة للرد عليها وتأكيد الخاصية الشعورية للإنسان في صورة فلسفة الديمومة ل"برغسون" والفلسفة الوجودية ل"سارتر" .في الأخير ، إن الإعتقاد بوجود اللاشعور يبقى حقيقة تقترب من الإجماع ، غير أن تفسيراتها ـ من حيث أسبابه ودرجاته وتأثيره وعلاقته بالشعور ـ تبقى محل جدل صارخ يصل إلى التناقض والاختلاف .إلا أن كل هذا لن يؤثر على اعتقادنا الدائم بالخاصية الروحية الواعية والغالبة للإنسان ، مادام أنها تجعل منه الكائن الوحيد الأخلاقي و المسؤول عن أفعاله .

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (662ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
نص السؤال : هل قوام الحياة النفسية الشعور أم اللاشعور ؟                                                         

 هل يمكن تفسبر جميع السلوكات البشرية بإرجاعها إلى الوعي ؟                                  

  طرح المشكلة إن محاولة فهم الكيان البشري ، ستحيلنا بالضرورة للتعرض إلى جانبين مهمين منه ، أحدهما مادي خاضع لقوانين الطبيعة ،وآخر نفسي مفارق للجسد . فالإنسان ينطوي على كيان داخلي شعوري ، مهم ، يحدد له شخصيته ووجوده الذهني . ونظرا لأهميته ، فقد سعى العلماء والفلاسفة الى تفسير ماهيته .غير أن ذلك التفسير لم يكن محلا للإجماع ففي الوقت الذي ذهب فيه أنصار الطرح الكلاسيكي إلى اعتبار الحياة النفسية شعورية خالصة ، خالفهم أنصار السيكولوجيا المعاصرة بأن أقروا أن الحياة النفسية ترجع إلى اللاشعور ، كجانب وجداني مظلم ، دائم النشاط ومحدد للسلوك . وأمام هذا الجدل صار من المشروع أن نطرح المشكلة التالية : هل يمكن القول أن سلوكات البشر ترتد إلى حالات شعورية واعية ؟ وإذاكان العكس ، فهل هذا يعني أن هناك جانبا آخر للحياة النفسية ؟

محاولة حل المشكلة :

الاطروحة الاولى : يرى مفكروا وفلاسفة الفكر الكلاسيكي ، أن قوام الحياة النفسية هو الشعور كخاصية دائمة ، لصيقة بالإنسان . فلا وجود لجانب لا شعوري ، لأن فهم جميع السلوكات نرده إلى الوعي الدائم لما يجري في النفس من أحول . فلا يمكن ان تطرأ حال على النفس دون ان نكون في حالة وجدانية تسمح لنا بالإدراك الواضح لها . ويعتمد دعاة الخاصية الشعورية للنفس على عدة حجج . فما تكرارنا الدائم لعبارة "أنا أشعر" إلا دليل على وعينا الدائم لذواتنا . وقد أكد فيلسوف الإسلام "ابن سينا" أن أساس إثبات خلود النفس هو الشعور ، فإذا تجرد الإنسان من التفكير في كل محسوس ومعقول فلا يمكن أن يتجرد من التفكير في أنه موجود ، إذ يقول في ذلك : " إن الشعور هوتغير في اتصال " فمهما تنوعت حالاتنا النفسية وتعددت إلا أن القاسم المشترك بينها يبقى الشعور والوعي الدائمان . ويذهب أبو الفلسفة الحديثة "روني ديكارت" إلى رد جميع تصرفاتنا للحياة الشعورية ، فالتسليم عنده بثنائية النفس والجسد يقود للتسليم بأن النفس تعي جميع أحوالها . فالتفكير صفة جوهرية لأن العقل يستطيع تأمل جميع أفكاره والشعور بها ، والنفس لا تنقطع عن التفكير فيما يخالجها إلا إذا تلاشى وجودها . ومن هنا يقول : " إن وجودي يستمر بمقدار ما يستمر التفكير . وإذا انقطع التفكير انقطع الوجود أيضا " . ويضيف أيضا : " ليست هناك حياة أخرى خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية " .وقد أثرت أفكار "ديكارت" في الفيلسوف الظواهري "إدموند هوسرل" الذي يقول : " الشعور هو دوما شعور بشيء ما " ، وعلى "جان بول سارتر" أيضا الذي جعل الشعور الدائم قواما للحياة النفسية ، ولنظريته في الحرية المطلقة للوجود لذاته . فهذه الأخيرة تستلزم دوما ذلك القلق الوجودي المتمثل في معاناة المواقف الحياتية شعوريا . وفي هذا يقول "سارتر" : " لا توجد للشعور إلا طريقة واحدة في الوجود ، وهي أن يشعر بأنه موجود " .وفي الفلسفة المعاصرة يبرز لنا زعيم النزعة الحدسية "هنري برغسون" ، كي يعترف أن الشعور ديمومة لا تنتهي ، فلا وجود لما هو غير حدسي ، بل كل ما في الأمر أن بعض الحالات النفسية يكون الشعور بها خافتالكنه لا ينقطع ، نسميه " ماتحت الشعور " ، وفي هذا يقول : " إن حياتنا الواعية لحن كبير ، مطرد النغم ، يستهل بولادتنا وينتهي بموتنا " . والحياة النفسية تكون بذلك اتصالا يبدأ في الماضي ويمتد في الحاضر والمستقبل .

النقد والمناقشة : لا يمكن إنكار ماذهب إليه أنصار الطرح الكلاسيكي في موقفهم الشعوري ، من حيث أن الوعي خاصية مميزة للبشر . لكن التجربة اليومية تبين بوضوح قيامنا بعديد السلوكات دون أن نجد لها مرجعية مقنعة ، تفسرها ، فس ساحة الشعور . ألا يعني هذا أن خاصية الشعور لا تستطيع استيعاب جميع سلوكاتنا ؟!

الاطروحة الثانية : خلافا للموقف الكلاسيكي ، يذهب أنصار السيكولوجيا المعاصرة ، بواسطة مدرسة التحليل النفسي إلى أن قوام الحياة النفسية هو اللاشعور كجانب مظلم يحتل جزءا هاما من أحوال النفس . وقد ظهر هذا التفسير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد أطباء أمثال "بروير" و "شاركو" و "برنهايم" ، وخاصة الطبيب والمحلل النفساني " سيغموند فرويد " . وقد قدم "فرويد" عدة حجج عقلية وتعليلية غير مباشرة ، وحجج الحيل وغيرها . فاللاشعور ألصق مايكون بنا ، وأبعد مايكون عن إدراكنا ، وهوضروري ـ انطلاقا من مبدأ السببية ـ لتفسبر أفعال تصدر من كل شخص سليم كالهفوات والأحلام وفهم الأعراض الباثولوجية) المرضية (لدى المريض . إن التجربة اليومية تواجهنا بافكار تأتينا دون معرفة مصدرها فلا نجد إلا فرض اللاشعور لتفسيرها . لذلك فاللاشعور حسب "فرويد" ضروري لإدراك مدلول الهفوات ، كفلتا ت اللسان وزلات القلم والقراءةالخاطئة والخطأ في السمع والنسيان المؤقت وإضاعة الأشياء . ومن القصص التي يرويها فرويد عن فلتات اللسان ، افتتاح رئيس مجلس نيابي للجلسة بقوله : " أيها السادة أتشرف بإعلان رفع الجلسة " ، وبذلك يكون قد عبر لا شعوريا عن عدم ارتياحه لما قد تسفر عنه الجلسة . ثم إن التسليم بوجود اللاشعور هو الحاسم الوحيد لإظهار العلاقة بين الرغبات المكبوتة والأحلام . حيث يرى "فرويد" أن الأحلام هي نتيجة الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تعمل على قهر الرغبات وكبتها . ويروي في هذا السياق ـ المحلل النفسي الأمريكي "فرينك" أن إحدى المريضات وجدت نفسها في المنام تشتري قبعة سوداء جميلة وغالية في الثمن ، فربط حلمها برغباتها اللاشعورية ، إذ أن في حياتها زوجا متقدما في السن تتمنى موته وإقامة الحداد عليه ولبس الأسود الذي هو لون القبعة ، وتريد زوجا غنيا ووسيما من خلال القبعة الجميلة والغالية في ثمنها .ويمكن التماس اللاشعور أيضا من خلال الحيل التي يستخدمها العقل دون شعور ، ويستخدمها لتغطية نقص أو فشل ، كالتعويض والتبرير والنسيان وغيرها . ومن امثلة التعويض مثلا ان الفتاة القصيرة تخفف من عقدتها النفسية بانتعالها أعلى النعال وهذا التصرف هو سلوك يرتد إلى نشاط نفسي تعويضي لا يخضع للوعي والمراقبة . وانطلاقا مما سبق يمكن القول أن "فرويد" يرد جميع تصرفاتنا إلى الرغبات المكتوبة في اللاشعور . يقول "فرويد" : " كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض ، وجب علينا أن نستنتج لدى المريض وجود بعض النشاطات اللاشعورية التي تحتوي على مدلول هذا المرض " .

النقد والمناقشة : لكن النظرية اللاشعورية تبقى فرضا فلسفيا لا يقينيا علميا ، إذ أنها لاقت عدة اعتراضات خاصة من رجال الدين والأخلاق اللذين رأوا أن "فرويد" جعل من الإنسان كائنا غريزيا تحركه رغباته المكبوتة . حتى أن الطبيب النمساوي "ستيكال" الذي كان يؤمن باللاشعور في مراحله الأولى اكتشف فيما بعد أن الأفكار التي يظهر أنها مكبوتة ، هي أفكار ما تحت شعورية وأن الناس بطبعهم يميلون لتجاهل وطرد الحقائق المؤلمة ، وهذه الأخيرة ليست لاشعورية بل هي تحت شعورية . ونجد في هذا السياق "سارتر" يرفض فكرة اللاشعور لأن الإنسان كائن حر وحريته تعني أن السلوك الإنساني يحيى في مجال الشعور .

التركيب :من خلال التمعن في الموقفين السابقين ، لايمكن أن ننكر الخاصية الشعورية الواعية للإنسان لأن إنكارها يعني وضعه في خانة الوجود المادي . كما لا يمكن إنكار اللاشعور كواقع يعيشه الإنسان ويؤثر في سلوكه ، لأن التفسيرات التي قدمتها مدرسة التحليل النفسي لا يمكن إلغاؤها بشكل مطلق ، فالحياة النفسية ذات طبيعة مزدوجة ، يقتسمها جانبان ، الأول شعوري والثاني لا شعوري ، وهما متكاملان في رسم الشخصية البشرية على اساس التكامل الحركي لا الجمع الرياضي .

 حل المشكلة :

الخاتمة :نستنتج في الأخير أن الإنسان يعيش حياة نفسية معقدة ،يصعب الفصل فيها والحسم في أمرها غير أن هذا لن يمنعنا من الاعتراف بتكامل الشعور واللاشعور في بنائها . وتجدر الإشارة إلى أن النظرية اللاشعورية ، رغم ما تعرضت له من انتقادات إلا أنها تبقى ثورة في مجال المعرفة لفهم الواقع البشري . وقد دفعت النظرية اللاشعورية العلماء إلى تكثيف الدراسات من أجل تجاوز نقائص "فرويد" وتعديلها ودفعت الفلاسفة للرد عليها وتأكيد الخاصية الشعورية للإنسان في صورة فلسفة الديمومة ل"برغسون" والفلسفة الوجودية ل"سارتر" .في الأخير ، إن الإعتقاد بوجود اللاشعور يبقى حقيقة تقترب من الإجماع ، غير أن تفسيراتها ـ من حيث أسبابه ودرجاته وتأثيره وعلاقته بالشعور ـ تبقى محل جدل صارخ يصل إلى التناقض والاختلاف .إلا أن كل هذا لن يؤثر على اعتقادنا الدائم بالخاصية الروحية الواعية والغالبة للإنسان ، مادام أنها تجعل منه الكائن الوحيد الأخلاقي و المسؤول عن أفعاله .
مرحبًا بك إلى موقع صحيح الحل، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين
...