0 تصويتات
في تصنيف ثقافة بواسطة (662ألف نقاط)
في سنة 1984، وفي إطار التقسيم الإداري الجديد الذي قامت به الحكومة الجزائرية في ذلك الوقت، تم إنشاء بلدية جديدة تسمى "المحمدية"، ومقرها الرئيسي منطقة "لافيجري".

وهنّا ستكتشف معي أصل تسمية "لافيجري"، وهي نسبة لشارل مارسيال لافيجري، الذي ولد في 31 أكتوبر 1825، بمدينة "بايون" الفرنسية، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة كاثوليكية، فأحبّ التعمّق بدراسة المسيحية. وقد وصل به حبّ التعمّق إلى أن أصبح كاهناً في عام 1849، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في الأدب عام 1850، وأخرى في "علم اللاهوت" سنة 1853.

عمل لافيجري أستاذاً لمادة تاريخ المسيحية بجامعة "السوربون" في العاصمة باريس، ثم انتقل إلى سوريا، حيث أنشأ رفقة أساتذة فرنسيين آخرين جمعية "عمل مدارس الشرق"، التي أصبحت تُسمى فيما بعد "عمل الشرق"، كما ترأس إدارة تحرير المجلة التي كانت تحمل الاسم نفسه.

وكان عمل الجمعية يتمثل في دعم مسيحيّي الشام، ومساعدة الإرساليات التبشيرية المسيحية في المنطقة، من خلال إنشاء مدارس للأطفال وبناء المستشفيات.

إقامته في سوريا ولبنان سمحت له بالتعرف عن قرب على الإسلام والثقافة العربية عموماً، قبل أن يعود إلى أوروبا سنة 1861، لشغل منصب قاضٍ في محكمة "روث"، إحدى المحاكم القضائية الثلاث للكنيسة الكاثوليكية بروما، ثم عُيّن أسقفاً لمدينة نانسي الفرنسية في سنة 1863.

وأصبح شارل مارسيال لافيجري رئيس أساقفة الجزائر عام 1867، فتفرغ لنشر المسيحية في إفريقيا. وأسّس في العام 1868 جمعية "الآباء البيض"، les péres blancs، ثم مجمع "الراهبات التبشيريات للسيدة الأفريقية" سنة 1869.

وبعدما أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية في 1881، أُنشئ منصب أسقف قرطاج وأوكلت مهمته إلى لافيجري، الذي احتفظ في الوقت نفسه بمركزه كرئيس أساقفة الجزائر. وفي العام نفسه عهد إليه الفاتيكان بمهمة التبشير بالصحراء والسودان (في ذلك الوقت كان اسم السودان يُطلق على دولة مالي الحالية)، ومُنح اللقب الشرفي "رئيس أساقفة أفريقيا".

وفي يوم 27 مارس 1882، منحه البابا "ليون الثالث عشر" لقب "الكاردينال"، حتى وفاته يوم 26 نوفمبر 1892 بالجزائر العاصمة، ثم أطلقت فرنسا اسمه على المنطقة التي بنى بها دير الرهبان.

"جامع الجزائر" يحمل دلالات دينية واجتماعية

لا شك أخي القارئ أنّك اكتشفت سر تسمية "ليبار بلان "، والتي تحدثت عنها في بداية المقال، أي جمعية الآباء البيض، وهي كلمة فرنسية تعني (les péres blancs).

وبخلاف الأساقفة الذين سبقوه بالجزائر فإن شارل مارسيال لافيجري ركّز كثيراً على التبشير، فأسّس جمعية "الآباء البيض" واتخذ مقرّها في هضبة صغيرة عند مصب وادي الحراش على البحر الأبيض المتوسط، بالضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث بنى الدير الذي كان يدرس ويعيش فيه الرهبان، هذا الدير هو إذاً البنايات "الرهيبة" التي تحدثت عنها سابقاً.

كانت المهمة الرئيسية لـ"الآباء البيض" و"الأخوات البيضاوات" نشر المسيحية وسط الأهالي، أي السكان الأصليين للبلاد. وقد وضع لافيجري الرهبان والراهبات الذين يعملون في الإرساليات التبشيرية أمام ثلاثة تحديات، وهي: "التحدث بلغة القوم (العربية والأمازيغية)، وارتداء لباسهم نفسه، وأكل طعامهم".

وعلى هذا الأساس فقد ارتدى رهبان هذه الجمعية التبشيرية الجديدة اللباس العربي الأمازيغي، المتمثل في "القندورة" و"البرنوس" باللون الأبيض، مع وضع "مسبحة" حول العنق على شكل قلادة كعلامةٍ دينية.

المهم، بعد سنوات عديدة من استقلال الجزائر عن فرنسا تم هدم الدير لبناء جامع الجزائر الأعظم مكانه. وقد وُضع حجر الأساس للجامع في عام 2012، وانتهت الأشغال فيه عام 2019، قبل أن يتم افتتاحه أمام المصلين يوم 28 أكتوبر 2020، ويتم تدشينه رسمياً يوم الأحد 25 فبراير 2024، من طرف رئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون.

تبلغ المساحة الإجمالية لجامع الجزائر الأعظم 27 ألف هكتار، وتتألف المئذنة من 43 طابقاً، بارتفاع 265 متراً، يُمكن رؤيتها من جميع أنحاء العاصمة، إضافةً إلى قاعة صلاة واسعة يمكنها أن تتسع لنحو 120 ألف مصلٍّ، ما يجعل هذا الصرح الديني ثالث أكبر مسجد في إفريقيا، والثالث في العالم بعد الحرمين الشريفين.

أريد الإشارة إلى أنّه لما فُتح الجامع للمصلين في سنة 2020 كانت تُقام فيه الصلوات الخمس فقط، دون صلاة الجمعة، وذلك لأسباب صحية (جائحة كورونا) وأمنية، ولكن كتابتي لهذه الأسطر، يوم 1 مارس 2024 يُصادف يوم جمعة، وستقام به بإذن الله صلاة الجمعة، كما تقرر فتحه لاحقاً لصلاة التراويح وعيدَي الفطر والأضحى.

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (662ألف نقاط)
 
أفضل إجابة
في سنة 1984، وفي إطار التقسيم الإداري الجديد الذي قامت به الحكومة الجزائرية في ذلك الوقت، تم إنشاء بلدية جديدة تسمى "المحمدية"، ومقرها الرئيسي منطقة "لافيجري".

وهنّا ستكتشف معي أصل تسمية "لافيجري"، وهي نسبة لشارل مارسيال لافيجري، الذي ولد في 31 أكتوبر 1825، بمدينة "بايون" الفرنسية، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة كاثوليكية، فأحبّ التعمّق بدراسة المسيحية. وقد وصل به حبّ التعمّق إلى أن أصبح كاهناً في عام 1849، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في الأدب عام 1850، وأخرى في "علم اللاهوت" سنة 1853.

عمل لافيجري أستاذاً لمادة تاريخ المسيحية بجامعة "السوربون" في العاصمة باريس، ثم انتقل إلى سوريا، حيث أنشأ رفقة أساتذة فرنسيين آخرين جمعية "عمل مدارس الشرق"، التي أصبحت تُسمى فيما بعد "عمل الشرق"، كما ترأس إدارة تحرير المجلة التي كانت تحمل الاسم نفسه.

وكان عمل الجمعية يتمثل في دعم مسيحيّي الشام، ومساعدة الإرساليات التبشيرية المسيحية في المنطقة، من خلال إنشاء مدارس للأطفال وبناء المستشفيات.

إقامته في سوريا ولبنان سمحت له بالتعرف عن قرب على الإسلام والثقافة العربية عموماً، قبل أن يعود إلى أوروبا سنة 1861، لشغل منصب قاضٍ في محكمة "روث"، إحدى المحاكم القضائية الثلاث للكنيسة الكاثوليكية بروما، ثم عُيّن أسقفاً لمدينة نانسي الفرنسية في سنة 1863.

وأصبح شارل مارسيال لافيجري رئيس أساقفة الجزائر عام 1867، فتفرغ لنشر المسيحية في إفريقيا. وأسّس في العام 1868 جمعية "الآباء البيض"، les péres blancs، ثم مجمع "الراهبات التبشيريات للسيدة الأفريقية" سنة 1869.

وبعدما أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية في 1881، أُنشئ منصب أسقف قرطاج وأوكلت مهمته إلى لافيجري، الذي احتفظ في الوقت نفسه بمركزه كرئيس أساقفة الجزائر. وفي العام نفسه عهد إليه الفاتيكان بمهمة التبشير بالصحراء والسودان (في ذلك الوقت كان اسم السودان يُطلق على دولة مالي الحالية)، ومُنح اللقب الشرفي "رئيس أساقفة أفريقيا".

وفي يوم 27 مارس 1882، منحه البابا "ليون الثالث عشر" لقب "الكاردينال"، حتى وفاته يوم 26 نوفمبر 1892 بالجزائر العاصمة، ثم أطلقت فرنسا اسمه على المنطقة التي بنى بها دير الرهبان.

"جامع الجزائر" يحمل دلالات دينية واجتماعية

لا شك أخي القارئ أنّك اكتشفت سر تسمية "ليبار بلان "، والتي تحدثت عنها في بداية المقال، أي جمعية الآباء البيض، وهي كلمة فرنسية تعني (les péres blancs).

وبخلاف الأساقفة الذين سبقوه بالجزائر فإن شارل مارسيال لافيجري ركّز كثيراً على التبشير، فأسّس جمعية "الآباء البيض" واتخذ مقرّها في هضبة صغيرة عند مصب وادي الحراش على البحر الأبيض المتوسط، بالضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث بنى الدير الذي كان يدرس ويعيش فيه الرهبان، هذا الدير هو إذاً البنايات "الرهيبة" التي تحدثت عنها سابقاً.

كانت المهمة الرئيسية لـ"الآباء البيض" و"الأخوات البيضاوات" نشر المسيحية وسط الأهالي، أي السكان الأصليين للبلاد. وقد وضع لافيجري الرهبان والراهبات الذين يعملون في الإرساليات التبشيرية أمام ثلاثة تحديات، وهي: "التحدث بلغة القوم (العربية والأمازيغية)، وارتداء لباسهم نفسه، وأكل طعامهم".

وعلى هذا الأساس فقد ارتدى رهبان هذه الجمعية التبشيرية الجديدة اللباس العربي الأمازيغي، المتمثل في "القندورة" و"البرنوس" باللون الأبيض، مع وضع "مسبحة" حول العنق على شكل قلادة كعلامةٍ دينية.

المهم، بعد سنوات عديدة من استقلال الجزائر عن فرنسا تم هدم الدير لبناء جامع الجزائر الأعظم مكانه. وقد وُضع حجر الأساس للجامع في عام 2012، وانتهت الأشغال فيه عام 2019، قبل أن يتم افتتاحه أمام المصلين يوم 28 أكتوبر 2020، ويتم تدشينه رسمياً يوم الأحد 25 فبراير 2024، من طرف رئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون.

تبلغ المساحة الإجمالية لجامع الجزائر الأعظم 27 ألف هكتار، وتتألف المئذنة من 43 طابقاً، بارتفاع 265 متراً، يُمكن رؤيتها من جميع أنحاء العاصمة، إضافةً إلى قاعة صلاة واسعة يمكنها أن تتسع لنحو 120 ألف مصلٍّ، ما يجعل هذا الصرح الديني ثالث أكبر مسجد في إفريقيا، والثالث في العالم بعد الحرمين الشريفين.

أريد الإشارة إلى أنّه لما فُتح الجامع للمصلين في سنة 2020 كانت تُقام فيه الصلوات الخمس فقط، دون صلاة الجمعة، وذلك لأسباب صحية (جائحة كورونا) وأمنية، ولكن كتابتي لهذه الأسطر، يوم 1 مارس 2024 يُصادف يوم جمعة، وستقام به بإذن الله صلاة الجمعة، كما تقرر فتحه لاحقاً لصلاة التراويح وعيدَي الفطر والأضحى.
مرحبًا بك إلى موقع صحيح الحل، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين
...