هل الرياضيات أصلها عقلي أم تجريبي؟
مقدمة :(طرح المشكلة )
تعرف الرياضيات بأنها العلم الذي يدرس المقادير الكمية القابلة للقياس، فهي تدرس الكم بنوعيه، المتصل ويقصد به الهندسة وسمي بذلك نظرا لاتصال كافة أجزائه، كما تدرس الكم المنفصل ويقصد به الحساب وسمي بذلك نظرا لانفصال أجزائه، وتعتبر الرياضيات النموذج الأرقى مقارنة بباقي العلوم ويرجع ذلك لدقة وصرامة نتائجها، لذلك نجد مختلف العلوم تستخدم لغة الرياضيات في التعبير عن موضوعاتها قصد الاقتراب من دقة الرياضيات ،...إلا أن ما أثار جدال بين المفكرين والفلاسفة و تضارب في آرائهم هو مشكلة أصل هذه المفاهيم الرياضية فإنقسمو إلى تيارين متعارضين تيار يرى أن أصل الرياضيات عقلي و تيار يرى بأن أصلها حسي تجريبي ، ...وأمام هذا الجدال الفكري تبرز المشكلة الآتية - هل أصل الرياضيات العقل أم التجربة ؟ أو بمعنى آخر هل المفاهيم الرياضية منتوج عقلي خالص أم إستوحاها الإنسان من الطبيعة ؟
عرض منطق الأطروحة :
يجمع الفلاسفة العقليون على فكرة مفادها ان أصل و منشأ المفاهيم الرياضية هو العقل لأن الحقائق الرياضية تتصف بالثبات و المطلقية و الوضوح و هذه الصفات لا نجدها إلا في المعرفة العقلية لأن ما تدركه الحواس يتميز بالتعدد و التنوع و يتبنى هذا الرأي الإتجاه العقلي ( أفلاطون ديكارت كانط) و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
إن المفاهيم الرياضية إبداع عقلي مجرد خالص ليس لها ما يقابلها في الواقع الحسي فالواقع لا يحتوي أعدادا و لا دوالا فنحن مثلا في الواقع نرى ثلاثة أقلام ولا نرى العدد3 فالمفاهيم الرياضية نفسها تدل على انه لا علاقة لها بالواقع الحسي فيها مثل العدد السالب والجذور و الأسس ،وكذلك الأشكال الهندسية التي نرسمها على الورق فما هي إلا رسوم تقريبية و غير مكتملة مثل "المكعب " الذي لا يمكن تصوره كاملا إلا داخل العقل يقول بورباكي "الرياضيات خزان كبير من الأشكال الهندسية التي يستطيع العقل إبداعها "
حيث يرى أفلاطون بأن المفاهيم الرياضية كالخط المستقيم والدائرة .واللانهائي والأكبر والأصغر ،هي مفاهيم أولية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا لان العقل بحسبه كان يحيا في عالم المثل وكان على علم بسائر الحقائق .ومنها المعطيات الرياضية التي هي أزلية وثابتة , لكنه لما فارق هذا العالم نسي أفكاره ,وكان عليه أن يتذكرها من جديد. يقول في هذا الشأن أفلاطون " إن المعرفة تذكر"
اما ديكارت فيرى أن المعاني الرياضية من أشكال وأعداد هي أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية وما يلقيه الله فينا من أفكار لا يعتريه الخطأ ولما كان العقل هو اعدل الأشياء قسمة بين الناس فإنهم يشتركون جميعا في العمليات العقلية حيث يقيمون عليه استنتاجاتهم حيث يقول في كتابه التأملات " المعاني الرياضية أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية". وينطلق ديكارت أيضا من أن البداهة صفة مميزة للمفاهيم الرياضية الثابتة وبما أن الحواس تخطأ معرفتها نسبية متغيرة متغيرة فلا يمكنها أن تدرك ما هو ثابت لان النسبي لا يدرك المطلق مثل البديهيات الرياضية كقولنا "الكل أكبر من الجزء " " القيمتان المتساويتان لثالث متساويتان فيما بينهما "
كما يعتبر كانط أن الرياضيات مبنية على مفهومي الزمان و المكان فهما شرط كل معرفة رياضية الزمان في الجبر و المكان في الهندسة و هما مفهومان مجردان سابقان عن التجربة حيث يقول كانط: "المكان والزمان صورتان قبليتان للعقل لم يستمدهما من التجربة".
نقد و مناقشة :رغم أنه لا يمكننا إنكار الطابع التجريدي للرياضيات و إعتمادها بشكل كبير على العقل لكن أن نجعل من العقل مصدرها الوحيد فهذا يوقعنا في جملة من التناقضات فهذا يجعل المفاهيم الرياضية نشأت دفعة واحدة وهذا ما يكذبه إستقراء تاريخ الرياضيات فإنكار دور التجربة في عملية البرهان الرياضي غير مبرر لأنه لو كانت أفكار فطرية موجودة في العقل لوجدناها عند جميع الناس دون الحاجة إلى تعلمها فالواقع يثبت أن الطفل لا يدركها بطابعها المجرد إلا من خلال ربطها بالواقع .
عرض نقيض الأطروحة :" الرياضيات أصلها تجريبي "
خلافا للموقف السابق نجد عددا آخر من المفكرين والفلاسفة يرجعون المفاهيم الرياضية الى اصول تجريبية حسية شأنها شأن كل المعارف الإنسانية التي لا يمكن للإنسان إكتسابها إلا من خلال ربطها بالواقع الحسي فنحن ننتقل في عملية التعلم من المحسوس إلى المجرد و من البسيط إلى المعقد و هذا ينطبق على الرياضيات فنستخدم الأشياء للدلالة على العدد والشكل.يمثل هذا الطرح كل من جون لوك ،دافيد هيوم ،ج.س.مل و يبرر هؤلاء موقفهم بعدة حجج، حيث يرى لوك أن العقل مجرد صفحة بيضاء تكتب عليها التجربة ما تشاء من مبادئ و مفاهيم و أفكار و من بينها المفاهيم الرياضية يقول في هذا لوك" ليس في العقل شيء إلا و قد سبق وجوده في الحس أولا" و يقول هيوم "لايوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة"
كما يرفض لوك نظرية الأفكار الفطرية فلو كانت الرياضيات أفكار فطرية تولد معنا لكانت عند الجميع ولما لجا الإنسان إلى إكتسابها و تعلمها لكن الواقع يثبت أن هناك تفاوت في فهم و إكتساب المفاهيم الرياضية مما يعني ؟أن التجربة الحسية هي أساس إكتساب المفاهيم الرياضية لذلك يقول لوك " لو كان يولدون وهم مزودون بأفكار فطرية لتساوو في المعرفة " و يقول هيوم "كل ما اعرفه قد استمدته من التجربة"
ويعتقد ج.س.مل أن الأشكال الهندسية التي تعتمدها الرياضيات مستوحاة من الواقع الحسي مثل (النقاط من النجوم ,الدائرة من الشمس و المثلث من الجبال ... إلخ) حيث يقول ج.س.مل "إن النقط و الخطوط و الدوائر التي يحملها كل واحد منا في ذهنه مجرد نسخ من تلك التي عرفها في التجربة
ومن الناحية التاريخية فإن المرحلة الاول للرياضيات كانت حسية خالصة "الرياضيات العملية" فقد ارتبطت الرياضيات عند الفراعنة والبابليين بالممارسات العملية ،حيث ظهرت الهندسة عند الفراعنة وارتبطت بظاهرة طبيعية هي فيضان نهر النيل الذي كان يؤدي إلى إتلاف الحدود بين الأراضي وإعادة تقسيمها استلزم على الفراعنة تعلم قواعد حساب المساحات "نظام مسح الأراضي" ولهذا عند فحص المدلول اللغوي لكلمة هندسة باللفظ اللاتيني(جيومتري) نجدها تعني قياس الأراضي أما الحساب فقد ظهر خدمة للمعاملات التجارية والزراعة "معرفة مواقيت الري و الملاحة" أن الشعوب البدائية كانت تعتمد على أساليب حسية في عملية الحساب مثل (الحصى و العيدان) وقد إستوحوا فكرة العدد من تنوع الأشياء الموجودة في الطبيعة لذلك يقال " لإكتشاف العدد لابد من أشياء تعد"
كما يثبت علم النفس ان الطفل في مرحلته التعليمية الأولى يكون عاجز عن إستيعاب المفاهيم الرياضية في صيغتها المجردة فلا يستطيع القيام بالعمليات الرياضية إلا من خلال ربطها بالواقع كما يلجأ إلى الإعتماد على أساليب حسية كالقريصات والخشيبات و أصابع اليد
نقد و مناقشة : حقيقة أن الرياضيات لها بدايات حسية وأن الإنسان يلجأ إلى الحواس لإكتسابها إلا أن أنصار المذهب التجريبي بالغوا في ردهم المفاهيم الرياضية إلى التجربة فقط لأن هذا إنكار لدور العقل الذي يعتبر ميزة إنسانية فريدة فلو كانت الحواس هي مصدر المفاهيم الرياضية لكان بوسع الحيوانات هي الأخرى إكتسابها كما أنه ليس لكل مفهوم رياضي مقابل حسي في الواقع فالواقع يثبت وجود الكثير من المفاهيم مثل المالانهاية والأعداد السالبة والمركبة وغيرها ليس لها مقابل حسي.
التركيب:
وكتركيب بين الموقفين يمكن القول أن الرياضيات لها مصدران عقلي و تجريبي فبعض مفاهيمها من إبداع العقل وحده و بعضها الآخر مستوحى من الطبيعة و بعضها الآخر يعتمد على كليهما معا و هذا ما نجده في الرياضيات التحليلية التي جمعت بين ميداني الرياضيات"الجبر و الهندسة", فالرياضيات علم عقلي مجرد لكن هذا التجريد لم يحدث دفعة واحدة بل سبقته مرحلة حسية حيث يقول سارطون "إن الرياضيات المشخصة هي أولى العلوم العقلية نشوءا فقد كانت في الماضي تجريبية ثم تجردت من هذه التأثيرات فأصبحت علما عقليا" فالرياضيات هي نتاج تكامل بين العقل و الحواس يقول بوانكاري "لولا الأجسام الموجودة في الطبيعة لما وجد علم الهندسة, ولكن الطبيعة بدون عقل مسلط عليها لا معنى لها"
خاتمة :(حل المشكلة)
ختاما لما سبق ذكره يلزم التأكيد على أن الاختلاف في نظر الفلاسفة والمفكرين حول أصل الرياضيات ، وتضارب آرائهم ومواقفهم حول مشكلة أصل المفاهيم الرياضية ، لا ينقص من قيمة أبحاثهم، ولا يسيء إلى البحث الفلسفي في هذا المجال، بقدر ما يزيده قيمة إلى قيمته، ذلك أن هذا الاختلاف يعبر بالدرجة الأولى على مدى حيوية الفكر البشري ومدى قابلته للتنوع والتطور, و عليه نستنتج أن الرياضيات ترجع الى أصوله عقلية و تجريبية معا ،فهي محصلة تكاملهما و هذا هو شأن كل المعارف الإنسانية التي تشترط هذا التفاعل و التكامل بين العقل و التجربة يقول غونزيث "ليست هناك معرفة تجريبية خالصة ,ولا معرفة عقلية خالصة, بل كل ما هناك أن أحد الجانبين العقلي أو التجريبي قد يطغى على الآخر دون أن يلغيه تماما " كما يقول بياجي " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا .وإن التجربة ضرورية لعملية التشكل و التجريد ".