هل يمكن التجريب على الظاهرة النفسية ؟
- هل يمكن دراسة الظاهرة النفسية دراسة علمية ؟
طرح المشكلة : يعتبر المنهج التجريبي منهج العلوم وقد وضع فرنسيس بيكون اسسه على المادة الجامدة موضوع العلوم الفيزيائية و الكيميائية هذه الاخيرة تقدمت تقدما كبيرا بفضل استخدماها لهذا المنهج ، كما ان العلوم البيولوجية حققت نفس المكاسب بفضل تبنيها هذا المنهج الامر الذي رغب العلوم الانسانية خاصة علماء النفس في استخدام هذا المنهج قصد تحقيق نفس النتائج الايجابية ولقد دار جدال كبير حول هذه النقطة فهناك من قال انه لا يمكن ابدا التجريب على الظاهرة النفسية بسب وجود مجموعة من العوائق الابستيمولوجية في حين ان هناك من عارض هذا الطرح وقال بامكانية تجاوز هذه العوائق وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول امكانية التجريب في علم النفس من عدمه او بصيغة اخرى هل يمكن دراسة الظاهرة النفسية دراسة علمية ؟
الأطروحة : يبدو ان المنهج الذي وضع على مقاس المادة الجامدة المتميزة بخصائص معينة يصعب تطبيقه على الظاهرة النفسية اذ هناك صعوبات كبيرة تعرف بالعوائق الابستيمولوجية (المعرفية) تقف حاجزا امام امكانية الدراسة العلمية التي نجدها في علمي الفيزياء و الكيمياء اولا و البيولوجيا ثانيا
الحجج : تتمثل هذه العوائق في طبيعة الظواهر النفسية الي تختلف بشكل جوهري عن المادة الجامدة او المادة الحية اذ انها - ذاتية و قصدية (خاضعة لمبدا الغائية ) شعورية عكس المادة الجامدة المتصفة بالموضوعية
- ان الظاهرة النفسية هي حادثة معنوية مجردة لا مادية مثلا الشعور بالخوف اثناء و قوع زلزال فالخوف شعور معنوي لا يمكن التجريب عليه
- حادثة لا تعرف السكون ولا تشغل مكانا محددا ، فلا مكان للشعور ، للانتباه ، للحلم ...فهي سيل لا ينقطع عن الحركة و الديمومة لهذا شبهت الحياة النفسية بانها نهر دائم الحركة و التدفق يقول برغسون : " الشعور ديمومة " فلا يمكن ان تبقى على حالها في زمنين متتاليين فهي ظاهرة ديناميكية
- شديدة التشابك و الاختلاط يشتبك فيها الاحساس مع الادراك و الذكاء مع الخيال ... وهي حادثة باطنية لا يدركها مباشرة الا صاحبها مثلا الشعور بالفرح لحظة الحصول على شهادة البكالوريا...الخ
- فريدة من نوعها لا تقبل التكرار و بالتالي هي حادثة ذاتية لا موضوعية ونتائجها لا تتجاوز حدود الوصف الكيفي فلا يمكن قياسها و التعبير عنها كميا (رياضيا) فلا يمكن قياس درجة الغضب مثلا او ايجاد مقياس يحكمه بمعنى اللغة تعجز عن وصف ما يجري في النفس
- صعوبة الملاحظة لانها حادثة داخلية يكون الملاحظ هو موضوع الملاحظة فالنفس لا ترى نفسها يقول مين دو بيران "ايتها السيكولوجيا اياك و الفيزياء ، بل اياك حتى الفيزيولوجيا "
- غياب مبدا السببية و الحتمية وبالتالي عدم القدرة على التنبؤ و التعميم يقول اوغست كونت" ان الفرد المفكر لا يمكن ان يشطر الى شطرين احدهما يفكر بينما ااخر يشاهد التفكير".
النقد : ان التطور العلمي خاصة في البيولوجيا و علم التشريح و الاعصاب ادى الى تجاوز بعض هذه العوائق ومكن من تجاوز هذا المفهوم الكلاسيكي القديم لان المنهج التجريبي اكتسب مرونة لتطبيقه في مختلف المجالات وهذا ما ادى الى ظهورعدة مدارس تختص بدراسة الحوادث النفسية معتمدة على المنهج العلمي
النقيض : يمكن دراسة الحوادث النفسية تجريبيا اذ ان تطور المنهج التجريبي و تكييف مراحله حسب طبيعة الموظوعات قد فتح المجال لعلماء النفس بتطبيق المنهج التجريبي في مختلف ابحاثهم و تجاوز العوائق و الدليل على ذلك تاسيس علماء النفس مناهج و مدارس تقوم على المنهج العلمي.
-اعتمد علماء النفس على هذه المناهج لمعرفة النفس الانسانية وما يدور داخلها عن طريق المنهج الاستبطاني وهو تامل الشخص لاحواله النفسية و التعبير عنها كأن نقول انا فرح يقول سقراط " اعرف نفسك بنفسك " سواء كانت هذه الحالة الشعورية حاضرة (مثلا وصف حالتك اثناء الامتحان...) او حالة ماضية (مثلا ان يصف شخص ما ذكرى من ذكريات الطفولة ) إذا يراد بالاستبطان هو علم الاحوال النفسية الداخلية يقول وليام جيمس " ان المنهج الاستبطاني نعني به دراسة ووصف الاحوال الشعورية من حيث هي كذالك " اي هو انعكاس الفرد على نفسه فعالم النفس لا يستطيع ان يرى مباشرة ما يحدث في نفس غيره و الطريقة التي يعرف بها ذلك هي الرجوع الى قرار نفسه و تأملها و بالتالي يقوم بوصفها و تحليلها و استنتاج القوانين التي تحكمها .
-كما ان هناك من آثر دراسة النفس الانسانية من خلال السلوك المادي للانسان متجاوزين بذلك صعوبة ملاحظة النفس ومايختلجها من مشاعر معنوية ويمثل هذا الموقف المدرسة السلوكية بزعامة واطسن الذي احدث قطيعة بين علم النفس و الميتافيزيقا فموضوع علم النفس هو السلوك الخارجي وحصروه في مبدأين (منبه و استجابة ) وهكذا ادرك علم النفس الموضوعية التي كانت حكرا على العلوم التجريبية فقط وقد استنبط هذا المنهج من اعمال بافلوف المعروفة بالمنعكس الشرطي و قد ساعد هذا الاخير في فهم كل عمليات التعلم من عادة و ادراك فعلم النفس عندهم هو دراسة لمجموعة الاستجابات التي بموجبها يواجه الكائن الحي التغيرات اي المنبهات الخارجية وهي استجابات يمكن قياسها و ملاحضتها و تحليلها بطريقة علمية مما يمكنهم من عملية التنبؤ بسلوك الانسان
منهج التحليل النفسي : بزعامة النمساوي سيغموند فرويد حيث اعتمد على الاساليب التفسيرية و استكشاف الافكار الخفية (اللاشعورية ) اذ تناول موضوعات عديدة مثلا الكبت وايجاد طرق في العلاجات النفسية لمرض الهستيريا واكتشاف مجال اللاوعي وقد استخدم فرويد طريقة التداعي الحر للافكار التي سلط بها الضوء على اللاشعور بان يذكر الشخص كل ما يدور داخله دون رقابة او اسئلة والكشف عن الرغبات المكبوتة مثل البرلماني الذي قال "رفعت الجلسة" بدل القول "فتحت الجلسة" دليل على انصراف رغبته عنها ويمكن ايضا الطلب من المرضى الرسم او الكتابة ( زلات القلم) فيمكن تتبع هذ الهفوات و الزلات لفهم مكبوتات النفس التي تاثر لا شعوريا على سلوكات الانسان يقول فرويد في هذ الصدد " يلاحظ من كانت له عينان يبصر بهما و اذنان يسمع بهما ان الناس لا يستطيعون اخفاء اي سر ، فمن سكتت شفتاه تحدث باطراف اصابعه ".
كما انه توجد مدارس اخرى مثل المدرسة الألمانية الغشطالتية بزعامة كوفكا و كوهلر. كل واحدة من هذه المدارس لديها مناهجها الخاصة وبفضل هذه المناهج تم كشف النقاب على الكثير من اسرار النفس و القوانين التي تحكمها وجعلت علم النفس في مصاف العلوم التجريبية الاخرى فيما يخص الموضوعية و العلمية و الاهمية
النقد : لكن النتائج المتوصل اليها تفتقر الى الدقة فهي مجرد تعميمات يكثر فيها الاستثناء كما ان السلوك ليس مجرد سلوك يرجع الى علاقة تربط بين (منبه )و (استجابة )كما في تجارب بافلوف و واطسون لان الانسان له ارادة فيستطيع الفعل او عدم الفعل كما انه لا يمكن الاعتماد على المنهج الاستبطاني لان اللغة عاجزة عن التعبير عن مشاعرنا وخاصة عند الاطفال كما ان تفسير فرويد للنفس وتاسيسها على مبدا اللاشعور المتمثل في الغرائز الجنسية فيه حط لقيمة الانسان و جعله في مصاف الحيوانات بضربه للشعور و الوعي او العقل عرض الحائط
التركيب : وكتركيب بين الموقفين فانه بالرغم من الاقرار بوجود عوائق الا ان هذا لم يمنع من دراسة الظاهرة النفسية دراسة تجريبية لكن مع تكييف المنهج العلمي مع خصوصية الميدان المبحوث فيه و الظاهرة المدروسة فالحوادث النفسية لا تنفرد و حدها بالتغير فالمادة الجامدة تتغير و الظاهرة الفيزيائية تتغير وان كل العلوم التي وصلت الى القوانين الكمية (الرياضية) مرت في نشاتها الاولى باللغة الكيفية (الوصفية)
- وكراي شخصي الدراسة العلمية ممكنة جدا في علم النفس و الدليل على ذالك النتائج القيمة التي توصل اليها علماء النفس والانتشار الرهيب للعيادات النفسية في شتى ارجاء العالم ماهو الا اثبات لهذه النتائج عمليا ونجاعتها وبالتالي برهان على علمية هذا العلم
حل المشكل : وكحل للإشكالية فانه و برغم كل العقبات المصادفة في الدراسات العلمية في علم النفس تم التوصل الى نتائج قيمة وفوائد جلية اذ رفع بذالك مثلا الستار عن الحياة اللاشعورية وفسرت الكثير من الأمور الغامضة ، وأصبح علم النفس اليوم جزءا من أي منظومة في الحياة بدليل تعدد أقسامه مثلا علم النفس الطفل و المراهق ، علم النفس التربوي ، علم النفيس الاجتماعي . لذالك قيل انه " لم يتطور علم النفس إلا بعدما أضفى على بحوثه و مقاربته ومناهجه صبغة علمية "