هل انطباق الفكر مع الواقع يمنعه من انطباقه مع نفسه؟
هل مصدر صحة الأفكار تعود إلى مطابقتها للفكر أم إلى مطابقتها للواقع؟
إن طبيعة الإنسان الفضولية جعلته يسعى دائما للبحث عن ماهية وجوهر الأشياء ومختلف الظواهر المحيطة به بغية الوصول إلى الحقيقة، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بأساليب التفكير وقواعده ومبادئه التي تيسر له عملية بناء معارف صحيحة ويقينية. غير أن الفلاسفة والمفكرين والعلماء قد اختلفوا حول مشكلة الوصول إلى الحقيقة وبالأحرى المنهج الموصل إليها، والذي يضمن اتفاق جميع العقول. وظهر نتيجة لذلك اتجاهان متعارضان يرى أنصار الأول منهما أن الاستدلال الصوري القائم على أساس عدم تناقض الفكر مع ذاته هو السبيل الوحيد الموصل إلى بناء الحقائق والمعارف، بينما يعتقد أنصار الثاني منهما أن الوصول إلى الحقيقة لن يتأتى إلا عن طريق الاستدلال التجريبي القائم على دراسة الواقع والمجسد لانطباق الفكر مع الواقع. من هنا ولرفع التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: أيهما السبيل الصحيح للوصول إلى الحقيقة. انطباق الفكر مع نفسه أو مع الواقع؟ وهل انطباق الفكر مع الواقع يمنع من انطباقه مع نفسه؟ وبعبارة أدق: هل بناء الحقائق والمعارف يكمن تطابق الفكر مع ذاته أو في تطابق الفكر مع الواقع؟
أكد عدد من المفكرين، الفلاسفة وعلماء المنطق، وعلى رأسهم الفيلسوف اليوناني "أرسطو"، "الفارابي" و "ابن سينا" أن الحقيقة نصل إليها عن طريق انطباق الفكر مع نفسه. والذي يتجسد من خلال الاعتماد على المنطق الصوري (الثابت) الذي يبحث في صحيح الفكر وفاسده، وهو الذي يضع القوانين والقواعد العقلية التي تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ. ومعنى ذلك أن مراعاة قواعد المنطق الصوري تضمن سلامة التفكير. انطلاقا من مسلمة مفادها أن المنطق الصوري هو العلم الذي يتناول مجموع الشروط والقواعد الفكرية التي يقوم عليها التفكير السليم، ويعد "أرسطو" مؤسس هذا المنطق بنظرية محددة القواعد تعمل على عصمة الذهن من الوقوع في الخطأ وتبعده عن التناقض مع نفسه، لهذا اعتبره "آلة العلم وصورته" مؤكدا على قيمته وأهميته، وهو بهذا يكشف لنا أن المنطق فن وصناعة تحدد صورة التفكير الصحيح وقواعده، وتعلمنا كيف نفكر وفق وحدات وشروط إذا التزم بها الفكر وطبقها عصمته من الخطأ. والدليل على ذلك: أن ملاحظة جميع وحدات المنطق الصوري (التصورات والحدود، التعاريف، الأحكام والقضايا، الاستدلالات) نجدها تمكن الإنسان من بناء تصورات وتعاريف ومفاهيم دقيقة تؤسس لدقة علمية، وبناء فكري موضوعي عقلاني محكم، وفحص مضبوط للمقدمات وفق قواعد كلية يسلم بها العقل تلقائيا بغض النظر عن مضمون المعرفة وموضوعاتها، ومن هنا يكون في وسع الفكر القدرة على كشف الأخطاء والأغاليط، والابتعاد عن التناقض، وتحقيق انسجام الفكر مع نفسه. مما يعني أن تلك القواعد لها دور كبير على إدارة المعرفة الإنسانية التي ينتجها الفكر الإنساني وإقامته العلوم الحسية والعقلية عليها، فها هي مثلا قواعد التعريف التي تنتمي إلى مبحث الحدود والتصورات ساعدت كثيرا الباحثين على ضبط مصطلحات ومفاهيم علمهم بفاعلية ووضوح وموضوعية أكبر. وتزداد هذه العملية ضبطا وأهمية خاصة إذا تعلق الأمر بالتصورات الخاصة بمجال الأخلاق والسياسة والحقوق والواجبات...كذلك أن استخدام مبحث الاستدلالات والاستدلال المباشر(بالتقابل وبالعكس) والاستدلال غير المباشر خاصة إذا تعلق الأمر بالقياس الحملي والقياس الشرطي لديه فائدة كبيرة في تحقيق الإنتاج السليم للعقل من خلال تحديد الضروب المنتجة من الضروب غير المنتجة، وهذا يؤدي بنا إلى الكشف السريع عن الأغاليط في شتى المعارف باختلاف مشاربها. لهذا اعتبره "الفارابي" رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها يقول: "صناعة تعطي في الجملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب و نحو الحق"، وبين غاية هذه الصناعة قائلا: "وحدها تكسبنا القدرة على تمييز ما تنقاد إليه أذهاننا هل هو حق أو باطل". وعرف "ابن سينا" المنطق من حيث غايته وثمرته وفائدته فقال: "الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله". وقد أشاد به "الغزالي" أيضا في مقدمة كتابه "المستصفى في علم الأصول" واعتبره معيارا للعلم قائلا: "إن من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلا". وبناء على هذا تظهر قيمة المنطق وقدرة قواعده على تحقيق انطباق الفكر مع نفسه وضمان صحة التفكير و تجاوز الأخطاء. ومن الأدلة التي اعتمدها أيضا أنصار المنطق الصوري لتأكيد أهميته البالغة، واعتباره السبيل الأمثل للمعرفة وضمان اتفاق العقول. أن إعمال العقل وتوجيه نشاطه الفكري، وترتيب معارفه ومكتسباته ومعرفة الصحيح والفاسد منها، يقتضي إدراك كيفية توافق وانسجام النتائج مع المقدمات، وكل ذلك طبعا لن يتحقق إلا بالتعرف على مبادئ العقل التي وضعها "أرسطو". وهي مجموع المبادئ التي تنظم المعرفة، وتنسق أفعال العقل في بحثه عن الحقيقة، وتسمى بالمبادئ المديرة للمعرفة، وهي مبادئ أولية عامة، مشتركة بين كل العقول، واضحة بذاتها لسنا في حاجة للبرهنة عليها، لذلك فهي شرط أساسي لسلامة العقل ونشاطه، وضرورية لبناء توافق وانسجام بين النتائج والمقدمات، وإحداث اتفاق ممكن بين العقول. ومن أبرز هذه المبادئ العقلية: مبدأ الهوية، عدم التناقض، الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع، مبدأ السببية، مبدأ الحتمية. و مبدأ الغائية. فهذه المبادئ تعتبر قوانين تنظم وتحكم أفعال العقل الإنساني وتوجه معارفه، لأنها الأساس الذي يضمن الارتباط الوثيق والمنطقي بين حدود الاستدلال، لهذا قال عنها "ليبنتز": "إنها ضرورية للتفكير كضرورة العضلات والأوتار العصبية للمشي". وعليه يمكن القول أن التعرف على وحدات الفكر المنطقي، وإدراك المبادئ العقلية التي تحكم الفكر تؤدي إلى نتيجة أساسية في التعامل الفكري وهي أن حسن انتقاء المقدمات، ومعرفة آليات التعامل معها والقوانين التي توجهها، ومن ثم ترتيب النتائج التي تلزم عنها بالضرورة واحترامها. كل ذلك يمكن من إبعاد العقل عن التناقض والأخطاء والعشوائية ويضمن ضرورة توافق النتائج مع المقدمات وحصول انطباق الفكر مع نفسه. لهذا عده الكثير –خاصة في العصور الوسطى- أصدق معيار يمكن الاستعانة به لدراسة العلوم، فهو معيارها وأداة يجب تحصيلها قبل البدء في أي نوع من البحوث، لما امتاز به من دقة عقلية، وتنظيم محكم في بناء الاستدلال، خاصة في الأشكال القياسية، وفحص المقدمات، والابتعاد عن الميول والأهواء التي تشوش أحكام العقل. من هنا اعتبر أسمى أسلوب لضمان اتفاق العقول وانسجامها وتوحيد حكمها. ومن نتائج تطبيق المنطق الصوري تصدي اليونانيين للمغالطات التي أفرزها الفكر السفسطائي بانتشار التفكير الصحيح الدقيق في أرجاء المجتمع الثقافي اليوناني طيلة العصر القديم بعد أرسطو. وهذا ما أدى أيضا إلى تربعه على عرش المعارف خاصة في العصور الوسطى ، بل تم تدريسه إجباريا من طرف المدارس المسيحية في هذه الفترة..
أما حديثا وبعد تطور العلم وخاصة الفيزياء تبين عجز المنهج الاستقرائي عن قراءة كتاب الطبيعة ولهذا اعتمد العلماء على المنهج الاستنباطي الرياضي الذي يجسد هو الآخر انطباق الفكر مع نفسه، حيث توصل "نيوتن" بفضله الى ضبط قانون الجاذبية وقوانين الميكانيك، وتمكن "آينشتاين" بفضله من بناء نظريته النسبية.
لكن ورغم ما قدمه أنصار المنطق الصوري من أدلة وحجج إلا أن موقفهم فيه الكثير من المبالغة، لأن المنطق الصوري ناقص ولا يعبر عن حقيقة الفكر من جميع جوانبه، فهو منطق اهتم بصورة الفكر وأهمل مادته مما ولد محدودية تطبيقاته. كما أنه يتصف بالثبات والسكون خاصة مبدأ الهوية، وعدم التناقض، بينما الواقع يتصف بالتغير والتجدد، لهذا فهو منطق يصلح للمناقشة والجدل أكثر مما يصلح للبحث عن الحقيقة، وما يؤكد ذلك أنه عقيم لأن القياس المنطقي لا يأتي بمعرفة جديدة. فهو منطق نظري يهتم بالشكل ويتجاهل المضمون والواقع. فهو لا يصلح لدراسة الطبيعة لكونه منطق سكوني لا يساير تغيرات العالم، والمبادئ التي يقوم عليها غير صحيحة، فمبدأ الثالث المرفوع انتقده "كانط" والكثير من العلماء بعده بينوا أن بين النفي والإثبات حالة وسطى مثل بين الوجود واللاوجود وهي الصيرورة أو التحول، فهناك قيمة وسطى يعبر عنها بالاحتمال أو الإمكان، ومبدأ عدم التناقض يعطل الفكر لأن التناقض هو الذي يحرك الوجود. فبين الفكرة ونقيضها تتجلى الحقيقة. فالتناقض أساس الحياة وصراع الأضداد يكشف الحقيقة، والعلم يتطور بفعل التناقض. بالإضافة إلى أن أنصاره والمدافعون عنه رفعوا من قيمته وشأنه وجعلوه أرقى وأكمل ما وصل إليه الفكر البشري، رغم أنه يبقى مجرد اجتهاد بشري يعتريه النقص، ولا يرقى إلى الكمال مهما كان فيه من مجال الإبداع. لأن العقل الإنساني ناقص وقاصر فكيف يمكنه أن يضع قواعد عامة يسير عليها وتضمن سلامته؟ فهي أيضا تكون قاصرة. ومن جهة أخرى قد نعرف قواعد المنطق الصوري ومع ذلك نقع في الأخطاء نتيجة تعرضنا لحتميات مختلفة كالحتمية الاجتماعية (العادات والتقاليد) والحتمية النفسية (الميول والرغبات والأهواء)...، ومن ناحية أخرى نجد كل الوقائع العلمية والمعرفية الحديثة والمعاصرة التي أحدثت ثورة في أبحاثها ونتائجها واكتشافاتها تجاوزت الاستدلالات الصورية واعتمدت بدلها الاستدلالات الاستقرائية التي تكشف عن الحقائق والنتائج الإبداعية.
لذلك أكد عدد من الفلاسفة والعلماء خاصة "فرنسيس بيكون"، "جون ستيوارت مل" بأن الحقيقة نصل إليها عن طريق انطباق الفكر مع الواقع، الذي يضمن اتفاق جميع العقول، والذي يتجسد من خلال المنطق المادي الاستقرائي. انطلاقا من مسلمة مفادها أن الدراسة الاستقرائية هي التي تؤسس لسلامة التفكير وصحته وانسجامه وانطباقه مع الواقع، فهي السبيل إلى المعرفة وفهم الواقع بكل أبعاده، ودراسة ظواهره واكتشاف أسبابها، حيث نجد العديد من العلماء التجريبيين يبررون موقفهم بالتأكيد على أن صحة التفكير تبنى انطلاقا من الواقع الموضوعي الذي ندرسه ونتأكد منه بالتجريب قبل تقرير أي شيء. أي أننا لا نعتمد إلا على الظواهر التي تقررها التجربة حتى نطهر تفكيرنا من التأمل الميتافيزيقي وأوهامه، التي لا تتفق مع الأفكار التجريبية، مثلما نادى به "فرنسيس بيكون" من خلال كتابه "الأورغانون الجديد" معارضا المنطق الأرسطي. حينما أشار إلى أن الاستقراء هو "استخلاص واستنتاج للقواعد العامة الكلية من الأحكام الجزئية"، مؤكدا أن التفكير العلمي ينبني على الواقع فالاستدلال الصوري في نظره عملية عقلية قاصرة، وأن العقل ليس مصدرا للحقيقة العلمية بل أن السبب في عدم تطور العلم حتى العصر الحديث هو استخدام المنطق الأرسطي الذي سيطر على الفكر الإنساني مدة تزيد عن عشرين قرنا. وبالفعل، فبظهور المنهج التجريبي الاستقرائي القائم على التجربة انفصلت العلوم عن الفلسفة، وابتعد الإنسان عن طرح المسائل الميتافيزيقية القائمة على الأهواء والأحكام الذاتية. و أصبحت المعارف والعلوم تتم عن طريق تطابق الفكر مع الواقع عن طريق المنهج الاستقرائي الذي يعتبر أساس الحقيقة وعماد العلوم كلها. كما يؤكد هؤلاء أن ضمانة المنطق الاستقرائي تنطلق من وقائع موجودة بالفعل يخضعها الباحث لقواعد تجريبية نفهمها ونفسرها وفق عللها وأسبابها التي تحكمها، ثم صياغتها في شكل قوانين متفق عليها. مثال ذلك: إذا تحققنا أن بعض المعادن تتمدد بالحرارة، كان بإمكاننا أن نستخلص من ذلك قانونا عاما وهو أن كل المعادن تتمدد بالحرارة، وإذا أخذنا كمية من الماء من البحر وأخرى من النهر وثالثة من البئر...وحللناها، كل واحدة على حدة وجدنا أنها تتألف في النهاية كلها من هيدروجين وأوكسجين، وكان هذا كافيا للحكم على الماء كله بأنه ينحل إلى هذين العنصرين. كل ذلك يؤكد إذن أهمية المنهج الاستقرائي ودوره في ضمان اتفاق العقول. ولن يتأتى لنا ذلك طبعا إلا بالأخذ في الحسبان الواقع التجريبي والموضوعية العلمية، والتعامل الحسي المخبري لكشف حقيقة الظواهر الواقعية. وذلك بالاعتماد على خطوات الاستقراء العلمي المتمثلة في الملاحظة وهي مشاهدة الظواهر الطبيعية كما هي في الطبيعة دون تغيير ولا تعديل من الباحث، والفرضية وهي فكرة عقلية يقترحها الباحث من أجل تفسير الظواهر وأخيرا التجربة وهي معيار صدق أو كذب الفرضية، وهي قادرة على دراسة الواقع والتأكد من التطابق التام بين الفكر ومادته، كما أن البرهنة في الاستقراء تجريبية ويمكن تعميمها لان العالم ينطلق من ملاحظات خاصة وجزئية إلى قوانين عامة وكلية. لهذا فالمنطق المادي منتج ومعيار الحقيقة فيه هو عدم تناقض النتائج مع الواقع. لذلك أكد "كلود برنار" على أهمية مقياس التجربة قائلا: " إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنطلع على طبيعة الأشياء التي هي خارجة عنا". و من المدافعين عن هذا الرأي أيضا نجده "جون ستيوارت مل" الذي أقر بأن التأكد من صحة الوقائع إنما يتم في ظل مطابقتها للواقع وذلك باعتماد قواعد الاستقراء الأربعة وهي قاعدة التلازم في الحضور، التلازم في الغياب، التغير النسبي وقاعدة البواقي . وأصبح من الواجب أيضا استعمال الرموز الرياضية للابتعاد عن الطابع اللغوي والكيفي للمنطق حتى لا نهمل الكميات التي يزخر بها الواقع، ونتيجة لاستخدام الاستقراء واتجاه الفكر إلى دراسة الواقع متسلحا بالتجربة والملاحظة ومتخليا عن كل الأحكام المسبقة والتي من شأنها أن تعيق البحث العلمي. تطورت العلوم واستقلت عن الفلسفة ومنهجها التأملي بل أصبحت مصداقية العلوم تقاس بمدى